عبد اللطيف مهنا

جون بولتون... كأنما لا يوجد في الأمم المتحدة هذه الأيام إلا هذا الاسم العائد لرجل يكاد، إعلامياً على الأقل، أن يختصر هذه الهيئة الدولية راهناً في شخصه... حيث تلاحقه الأضواء ملاحقته لها، ولا غرو في ذلك فهو الدائب الحركة الذي لا يصمت، بل ذرب اللسان أو طويله طول باع الدولة القطب الأوحد التي يمثلها في مجلس الأمن... الدولة التي اعتمدته مندوباً سامياً لها في مؤسسة لا تنظر إليها، فضلاً عن ما يكنه مندوبها لها من عدم احترام، أو حتى من ازدراء سابق معروف عنه، بأكثر كثيراً من مؤسسة كونية تابعة لوزارة خارجيتها أو ملحقة بها... هذا في حالة عدم إهمالها أحياناً، لانعدام الحاجة إلى استخدامها في حينه. أو إذا ما رأت في بعض الحالات ضرورة تجاوزها، كما حدث في الحالة العراقية قبيل الغزو.

حول هذا الرجل هذه الأيام تدور الدوائر، وفي رحابه أو بين يديه تعقد حلقات ما خلف الكواليس. أما خارجها فلعل ظله العالي، وضجيجه الدائم المدروس، يكادان يحجبان حضور الأمين العام للأمم المتحدة... الأمين العام البادي هذه الأيام أكثر تواضعاً إن حضوراً أو دوراً... أو هذا الحذر الحصيف، الذي يغدو مع الأيام أكثر وداعةً في وجه سطوة النافذين، أو بتعبير آخر، الأكثر مسايرةً لأولي الأمر والنهي في الساحة الدولية، باعتبارهم المتفردين وحدهم بامتياز فرض الإملاءات في هذه الهيئة الدولية... تلك المتراجع دورها وفعاليتها في حقبة أحادية القطبية الكونية الراهنة التي ينفردون بها... ولعلمه علم اليقين أن هذه المؤسسة التي هو أمينها العام، كانت وتظل قيد التدجين الأبدى لموازين القوى الكونية الفاعلة التي يحسن الرجل قراءتها...

هذه الأيام تشهد الأروقة الدولية موسماً لجباً من مواسم بولتون الصاخبة والهامسة في آن. إذ تعقد في أطنابها معتاد البازارات التساومية الصعبة المترافقة عادة مع ما يعد من جديد القرارات، لا سيما تلك الفرامانات الإمبراطورية الأمريكية منها المراد تمريرها... تلك البازارات التي تقام مزاداتها العلنية جهاراً على مسرحها، وتطلق مناوراتها مباشرة تحت الأنوار الإعلامية الكاشفة، لكن لتخدم المخبؤ لا المكشوف مما يعد أساساً في الدهاليز أو خلف الأبواب المغلقة... ف"الشرعية الدولية" مطلوب منها في هذه الحقبة إياها، ولعل هذا حالها دائماً، أن توالي إصدار الفتاوى التي من شأنها أن تغطي رغائب نافذيها، أو في ما نحن بصدده، شرعنة الإملاءات الإمبراطورية التي تترجم سياسات ومصالح القوة الأعظم... القرارات التي لا بأس أن تبناها أو اقترحها أو مهّد لها أو حتى أضاف لها تعديلاً، وكلاء آخرون، تحت مسمى حليف، أو حتى معترض، يحمل بطاقة دائم العضوية في مجلس الأمن. كما لا بأس إن اُقترحت بلغة غير الانكليزية... المهم هنا هو ما وراء القصد منها... والمهم دائماً أن يظل المايسترو أو القابلة لعملية الولادة، أسواء عسرت أم سهلت، هو جون بولتون إياه...

في مطابخ إقطاعية جون بولتون الدولية هذه الأيام يطبخ الطهاة إياهم مشروع قرارين في آن واحد، الأول: فرنسي الصياغة لكنه أمريكي وإسرائيلي المضمون... والثاني: يمتاز عن الأول بأنه ثلاثي الصياغة، أي أمريكي بريطاني فرنسي، بيد أنه يشارك سابقه في ميزة كونه أيضاً إسرائيلي المضمون!

الأول: يختص بمحاولة فرض نوع من تنظيم العلاقة بين دولتين عربيتين توأمين هما سوريا ولبنان وفق المواصفات المنشودة لمثل هذه العلاقة من قبل أصحاب مشروع القرار، اللذين يعدونه دونما الإلتفات إلى أن في ذلك سابقةٍ لم تشهد المؤسسة التي يراد منها أن تتبناه في تاريخها مثيلاً، أو هو يتسم بخروج فج على أعرافها ومواثيقها مثل: إلزام الدولتين المعنيتين بتبادل السفارات "في أسرع وقت ممكن"! وضرورة ترسيم الحدود بينهما، بما فيها تلك الأجزاء الواقعة تحت الاحتلال من طرف ثالث، أي الإسرائيلي!

والثاني: مشروع قرار ملزم يستند إلى البند السابع في ميثاق الأمم المتحدة المجيز للعقوبات في حال عدم استجابة المعني به، بما يصل حدود استعمال القوة العسكرية، يطالب إيران بتجميد أنشطة التخصيب في مشروعها لاستخدام الطاقة النووية، بما في ذلك ما له علاقة بعملية "الأبحاث والتطوير"، وإيقاف "بناء مفاعل يعمل بالماء الثقيل"... وأيضاً دونما الالتفات إلى أن ما قامت وما تقوم به إيران، حتى الآن على الأقل، ينسجم كلياً مع حقها المشروع الذي يكفله لها ميثاق الوكالة الدولية للطاقة النووية، أو معاهدة عدم انتشار أسلحة الدمار الشامل، والبروتوكولات الإضافية التي وقعتها طهران وأعلنت التزامها الكامل بها، ولا يخرج عنه!

مشروع القرار الأول، أي اللبناني، يدعو إلى ما يوصف باستكمال تنفيذ القرار 1559، وحيث يلقي، حتى الآن، معارضة روسية وصينية، يظل الاحتمال الأكثر بأن يغدو رئاسياً، أما مشروع القرار الثاني، أي الإيراني، فهو إذ يلقي ذات المعارضة، غير النهائية، من ذات الدولتين، فيتجنب ذكر العقوبات، مستبدلاً ذلك بالتلويح "بتدابير جديدة" إذا لم تستجب إيران لمشيئة "المجتمع الدولي" إياه، في محاولة التفاف واضح على المعارضتين المذكورتين، وفي سياق تدرج معروف يتّبع عادة للوصول فيما بعد إلى العقوبات المنشودة، ودائماً يظل المفضل هو ذاك البند السابع!

...ونظرة متفحصة إلى ما بين سطور القرارين على اختلاف عنوانيهما، أو ملاحقة متمعنة منا لاستهدافاتهما، أو باحثة عن ذاك الكامن وراء جل هذا التحرك من قبل تلك الأطراف الساعية إلى إصدارهما، نخلص بلا أدنى لبس إلى حقيقة تقول أنهما لا يراد منهما إلا أن يخدما ذات الأهداف، وذات التوجهات، فالغرض منهما واحد، ويجيئان في سياق واحد، وهما في هذه الحالة الأشبه بقرار واحد في نصين... كيف، ولماذا؟

في الحالة اللبنانية، المقصود، ودونما لفّ أو دوران، ثلاث مسائل هي: نزع سلاح المقاومة اللبنانية، ومثله، سلاح المخيمات الفلسطينية، ومواصلة الضغط على سوريا لفك ارتباطها بهاتين المقاومتين، أو تغيير موقفها المعلن بالنسبة للقضية الفلسطينية، أو مؤخراً موقفها الداعم لحكومة حماس، وكذا تغييره مما جرى ويجري في العراق المحتل، وصولاً إلى فك عرى التحالف مع إيران أو إضعافه ... بمعنى أن القرار يستهدف جزر أو بقايا مواقع الممانعة للمشروع الأمريكي وملحقه الإسرائيلي في المنطقة، أو هذه الحلقات المعترضة الأخيرة: اللبنانية، الفلسطينية، السورية، الإيرانية...

ولعل الطريف أو الغريب هنا، هو أن من كانوا يريدون إخراج سوريا من لبنان بأي ثمن، عادوا اليوم بعد خروجها منه، وبعد أن طاردوا طيلة الوقت الذي تلى هذا الخروج أشباحها المزعومة المتبقية هناك، يحاولون اليوم الضغط عليها طالبين مساعدتها في إنجاز مشروعهم المعادي لها المتعثر فيه! وإجمالاً، فإن مشروع القرار المعني يحاول دونما مواربة توظيف لبنان للضغط على سوريا فإيران مروراً بفلسطين مرة واحدة، الأمر الذي في حقيقته، ونظراً لهشاشة التركيبة اللبنانية وتعقيداتها المعروفة، أشبه ما يكون بتلزيم هذا البلد مهمة انتحارية لصالح المخططات المشار إليها، أي تلك الكامنة وراء مشروعي القرارين معاً!

في مشروع القرار الثاني، أي في الحالة الإيرانية، يفضل الإسرائيليون، كما يقول رئيس الأركان الجنرال دان حلوتس، أن يختبئوا وراء الغرب في المسعى لإيقاف البرامج النووي الإيراني أو إعاقته، أو كما يقول:

"لا يجب علينا أن نقف على التل... إذا كانت توجد لدينا أفكار، فيجب إتمامها وراء الأستار وفي خزائن مغلقة... إن وجودنا في المقدمة قد يتركنا هناك"، لكن حلوتس يحذر من أن الإيرانيين جادون لاستكمال مشروعهم، وإنهم إذا ما نجحوا، فإن "سيناريو المظلة" النووية إذا ما تحقق لهم، سيضعنا، أي الإسرائيليين، "تحت التهديد الذري، كإنما سيكبلون أيدينا. سيقيدون قدرتنا على العمل بحرية".

...الأمر الذي حدا بواحدٍ مثل دينس روس، الذي لسنا في حاجة إلى التعريف به، إلى تشبيه المواجهة الدائرة حتى الآن بين واشنطن وإيران برقصة كلاسيكية، حيث كما يقول: تستخدم واشنطن الأمم المتحدة للضغط على إيران، وإيران تواصل برنامجها، "وإذا ما واصلنا السير على نفس الطريق، فإننا سنجد أنه لم يعد متبقياً أمامنا سوى خيارين: القبول بحقيقة امتلاك إيران القدرة النووية، أو القيام بعمل عسكري يضرب طموحهافي هذا المجال، ومحصلة كلٍ من هذين الخيارين يمكن أن تكون كارثية"... لذا يفضل روس المفاوضات المباشرة ويدعو لمبدأ الصفقات!

إيران ليست في وارد التراجع عن برنامجها، وهذا ما تحرص القيادات الإيرانية على تأكيده صباح مساء، وبوش، عاد مرة أخرى إلى القول:

"ليس على الإيرانيين امتلاك سلاح نووي، أو القابلية لصناعة سلاح نووي، أو المعرفة اللازمة لكيفية صناعة سلاح نووي"... أي التأكيد على وجوب إنجاز، بالأصالة عن النفس وبالتالي الإنابة عن حلوتس، كل ما يريده الجنرال غير الراغب في الوقوف على التل وإنما خلفه... ويفضل الرئيس الأمريكي هنا تحقيق ذلك عبر الأمم المتحدة، فإن تعذّر فبالتهديد العسكري، وحيث يشكك الكثيرون في نجاعة ذلك، فليكن تحقيقه وفق ما يفضله أو يقترحه دينس روس، أي لا استبعاد بتاتاً للتفاوض المباشر واللجوء إلى عقد الصفقات، بعيداً عن ممارسة "الرقص الكلاسيكي" غير المجدي!

مشروعا القرارين يأتيان في سياق تعثر المشروع الأمريكي في العراق نتيجة لتعاظم المقاومة العراقية للاحتلال، بحيث يحاول الأمريكان اليوم إخراج آخر سهامهم المتوفرة لهم في جعبتهم التي شارفت على الفروغ: التقسيم، أو ما يدعى الحل البوسني للورطة العراقية، وفق اقتراح للسيناتور الديمقراطي النافذ جون بايدن، قدمه للكونغرس... اقتراح يعتبره في ظل عدم امتلاك بوش "استراتيجية للفوز في العراق" الحل الأفضل... هذا الحل الأفضل عنده، يكمن في: "إعطاء كل مجموعة عرقية دينية مساحة لإدارة شوؤنها الخاصة مع قيام الحكومة المركزية بإدارة المصالح المشتركة"! وهذه الحكومة المركزية المديرة للمصالح المشتركة، "تكلف فقط الدفاع عن الحدود والشؤون الخارجية وعائدات النفط"... أما العاصمة بغداد، فمنطقة فيدرالية "تحظى منها المناطق التي فيها كثافة سكانية متعددة الأعراق، بحماية من قبل الشرطة متعددة الطوائف، وشرطة دولية"!!!

...ومشروعا القرارين يأتيان في مرحلة استقال فيها جيمس ولفنستون مندوب الرباعية، مرفقاً استقالته من مهمته الفلسطينية هذه بتقريره الوداعي المقدم لما يعرف باللجنة الرباعية... للجنة المكونة من الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا، أو شاهدة الزور التي تقول المصادر الإسرائيلية أنها بدورها تتدارس راهناً استقالتها من مهمة الوساطة بين الاحتلال ومن يحتل، والتخلي عن معزوفة رميم خارطة الطريق لصالح خطة أولمرت الفتية... "خطة الانطواء"، أو حسب التوصيف الإسرائيلي الأخير، "تصميم الحدود" الإسرائيلية من طرف واحد، باعتبار أن "ضمان غالبية يهودية هو حبل النجاة للصهيونية"، وفقما ورد في خطاب أولمرت في جلسة طرح نيل الثقة بحكومته في الكنيست، حيث نالها على أساس برنامجها المستند على هذه الخطة... ولفنستون عزا استقالته لسبب من القيود المفروضة على دوره من قبل الرباعية إثر فوز حماس في انتخابات تشريعي السلطة... مكتشفاً أن "الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يؤثر على السلام العالمي"! منتقداً قطع المعونات الغربية عن السلطة باعتبارها كما يقول "مغامرة خاسرة"... وتجدر الإشارة هنا إلى أن نائب وزير الخزانة الأمريكية لشؤون مكافحة الإرهاب والمعلومات المالية ستيوارت ليفي كان في تل أبيب لتنسيق الجهود لمنع المساعدات، وسد كافة منافذها إن وجدت، عن الفلسطينيين... لكن الأخطر يكمن فيما قاله الناطق باسم رئاسة السلطة الفلسطينية، التي غدت بعد انتخابات التشريعي، كما هو معروف، برأسين وبرنامجين:

لا توجد دول مستعدة لدفع أموال للشعب الفلسطيني، ولا توجد مصارف في الوقت نفسه مستعدة لتسليم أي أموال، إن وجدت، من بعض الدول العربية أو الأجنبية، ما لم تلب الحكومة الفلسطينية اشتراطات اللجنة الرباعية، والتي تتمثل في نبذ العنف والإرهاب والاعتراف بإسرائيل، والاتزام بالاتفاقات التي وقعتها السلطة الفلسطينية مع مختلف الأطراف"!!!

إذن، في مطابخ الأمم المتحدة راهناً ينشط راقصو دينس روس على تل الجنرال حلوتس عبر رئيس طباخيها جون بولتون ومعاونيه البريطاني والفرنسي في وضع اللمسات الأخيرة لوصفتين لمشروعي قرارين على نار غير هادئة... وهذين المشروعين باستهدافاتهما الأمريكية – الإسرائيلية – الأوروبية، لا يمكن فصلهما بحال واحد هما عن الآخر، كما لا يمكن فصل تلك الاستهدافات من ورائهما في مجمل الساحات المعنية بهما... الساحات: اللبنانية، الفلسطينية، السورية، العراقية، الإيرانية...

هل ستنجح لمسات بولتون الإمبراطورية، بطبعاتها الإنكليزية والفرنسية ونكهتها الإسرائيلية، في تمرير مشروعي القرارين؟!

حتى لو نجح... التجربة على تفاوتها في كل هذه الساحات، وخصوصاً الإيرانية، تقول: الأمريكان ليسوا قدراً... فهم إن بدوا ذات يوم وكأنهم كذلك، فإنهم اليوم قطعاً لم يعودوا في نظر العالم، وليس المنطقة وحدها، كما كانوا!!!