بعد ايام معدودة من تفجيرات سيناء: اجتمع مجلس الشعب فى مصر ليطلب من الحكومة الموافقة على تمديد العمل بقانون الطوارئ لمدة عامين، او الى حين صدور قانون جديد للارهاب - ايهما اقرب - ولم يكن الطلب مفاجئا، فقد كانت القوى السياسية كلها تعرف ان العمل بقانون الطوارئ ينتهى فى نهاية الشهر الحالى. ورغم ان الرئيس مبارك وعد فى برنامجه الانتخابى بالغاء الطوارئ واحلال قانون جديد يستغرق اعداده ثمانية عشر شهرا.. الا ان كل الشواهد تدل على ان الحكومة لم تفرغ من اعداد القانون الجديد، وان اعداده يتطلب تعديل بعض المواد الدستورية التى تتعارض مع القانون الجديد مما يتطلب فسحة زمنية اوسع. فاستقر الرأى على استمرار العمل بالقانون الحالى لمدة عامين. رغم المعارضة العنيفة من جانب الاحزاب والهيئات والنقابات المهنية.

وكان اجتماع مجلس الشعب اشبه بمبارزة علنية بين نواب الحزب الحاكم، ونواب الاخوان المسلمين والوفد والمستقلين، اما النائبان الممثلان لحزب التجمع المعارض فقد تغيبا عن الجلسة، وارتدى المعارضون اوشحة تحمل عبارة (لا للطوارئ) واستقبلهم نواب الحكومة بعبارة (لا للارهاب) مكتوبة فوق أوراق علقوها على الميكروفونات. ودارت الملاسنة بين الفريقين. المتحدثون باسم حزب الحكومة يقولون انهم ليسوا عشاقا للطوارئ، ولكنهم مضطرون لاستعمال هذا الدواء المر لمواجهة الارهاب، عملا بقول الشاعر (ومن السموم الناقعات دواء) وهو البيت الذى استشهد به الدكتور مصطفى الفقى، بينما قال نواب المعارضة ان قانون الطوارئ لم ينجح مرة واحدة فى احباط جريمة ارهابية، وان الغرض منه كبت الحريات، وتكميم الافواه، وتسميم الحياة السياسية، وتجرأ بعضهم فزعم ان الحكومة دفعت أموالا الى نوابها لشراء موافقتهم، وكادت تحدث أزمة تؤدى الى فصل صاحب هذه المقولة، لولا نجاح الدكتور سرور فى تطويق الأزمة قبل ان تتحول الى معركة جانبية تعطل حصول الحكومة على موافقة الاغلبية. وبالفعل وافق 257 عضوا فى مقابل 91 عضوا رفضوا القرار.

تطويع السلطة التشريعية

هذه النهاية الطبيعية لمعركة التصويت على القرارات الهامة، تكشف دوافع الحكومة على تحقيق أغلبية برلمانية بأية وسيلة مشروعة او غير مشروعة، حتى لو تطلب الأمر تزوير الانتخابات، لأن هذه الاغلبية هى السند التشريعى الذى يعطى للقوانين قوتها، وبدونها لا تمر القوانين من المجلس. وخاصة القوانين ذات الصبغة المؤثرة فى نظام الحكم، مثل التجديد لرئيس الجمهورية، او تجديد العمل بقانون الطوارئ او اعتماد الميزانية العامة للدولة حتى لو كانت مثقلة بالعيوب والثقوب، ويستخلص علماء الفكر السياسى من هذه الظاهرة حقيقة اصبحت من المسلمات، وهى ان النظام الحاكم فى مصر نجح فى تطويع السلطة التشريعية، وتفصيلها على مقاسه، واعتبار المجلس النيابى فرعا من فروع الحزب الحاكم، يمتثل لارادة الدولة، ويخضع لمشيئتها، يقول " نعم " او " لا " حسب ما تملى عليه السلطات العليا.

تطويع السلطة القضائية

لعل نجاح الدولة فى تطويع ارادة السلطة التشريعية، هو الذى اغراها بالاقدام على تطويع ارادة السلطة القضائية، وقد حققت بعض النجاح من خلال خطة ماكرة تتمثل فى الاستعانة برجال القضاء فى الاشراف على شئون قانونية فى الوزارات والمصالح والدوائر والشركات والهيئات، وكلها من توابع السلطة التنفيذية فى مقابل أجور ومرتبات عالية، وعن طريق هذا الاستدراج تم استخدام القضاة فى اعمال تنفيذية. الامر الذى آثار ثائرة شريحة كبيرة من القضاة وجدوا فى هذا الاستدراج وسيلة خبيثة لاخضاع السلطة القضائية لهيمنة السلطة التنفيذية، وبذلك تزول الفواصل والحواجز بين السلطات الدستورية الثلاث، وتنفرد السلطة التنفيذية بادارة شئون الدولة دون رقيب برلمانى، او رقيب قضائي.

أسباب الصراع

وربما لا يعلم الكثيرون ان مسألة تشغيل القضاة فى وظائف حكومية هو من أسباب الصراع المحتدم فى نادى القضاة بين الفريق الرافض لهذه الخطة، والفريق الموافق عليها وهو الفريق الموالى للمجلس الاعلى للقضاء. فى حين يتمسك الفريق الاول بسرعة انجاز مشروع القانون الذى اعده النادى لوضع مبدأ استقلال القضاء موضع التنفيذ. وتراوغ الحكومة فى تقديم المشروع سنة بعد اخرى الى ان ييأس القضاة. ويقبلوا بالأمر الواقع. ولكن الفريق الغالب يرفض الاستسلام، ويعلن التحدى ويتصدى لمحاولة لتقديم بعض المستشارين لمحكمة التأديب.

كسروا حاجز الخوف

والحقيقة ان غضبة القضاة هى ذروة التعبير عن حالة الغليان التى تجرى فى الشارع المصرى والتى تظهر فى شكل مظاهرات واعتصامات واضرابات ومصادمات دامية مع جهاز الأمن. وكان خروج القضاة فى اوشحتهم الى الطريق العام، مشجعا لبقية القوى الغاضبة على مساندتهم، وفى مقدمتهم المحامون والصحفيون واعضاء جماعات حقوق الانسان وجماعة " كفاية " و"شايفنكم " وغيرها من تنظيمات جماهيرية كسرت حاجز الخوف ودخلت فى صدامات مع فرق الأمن، وكانت التعليمات الصادرة الى أجهزة الامن تمنع الاعتداء على هذه المظاهرات خلال فترة ترشيح الرئيس مبارك فى انتخابات الرئاسة، ولكن تغير الموقف الآن، وتفجرت القنابل المسيلة للدموع، وانهالت العصى على أجساد المتظاهرين، وكان أبشعها حادث الاعتداء المبرح على المستشار محمود حمزة الذى نقل الى المستشفى والدماء تنزف منه.

اليأس من الإصلاح

حالة الغليان التى تسود الشارع المصرى الآن نتيجة طبيعية لحالة اليأس من الاصلاح، وتدهور الامور الاقتصادية والمعيشية واحساس المواطن بان كل ما قيل عن برنامج الاصلاح السياسى لم يكن سوى دعاية انتخابية، وان فترة التهدئة انتهت مع الانتخابات وعادت الدولة الى اسلوبها العتيق فى تكسير العظام، ويسود الآن إحساس بأن الحالة التى تمر بها البلاد تشبه ما كانت عليه فى اواخر العهد الملكى بعد حرق القاهرة وانفلات الامن، وان مصر مقبلة على صيف ساخن يصعب معرفة آثاره ونتائجه ومع ذلك لا تشعر الدولة بهذا الخطر المرتقب ولا تعمل على انجاز ما وعدت به من إصلاح سياسى، بل تترك الأمور تجرى فى أعنتها على أمل أن تخمد العاصفة. وتعود الشمس لتشرق من خدرها كما تفعل منذ الآف السنين.