تبدو رسالة أسامة بن لادن الأخيرة التي بثتها قناة الجزيرة أشبه بمحاضرة حول العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب خلال العقود الماضية، وإن تركز الحديث عن المرحلة الأخيرة وما شهدته من أحداث وتطورات.

لا نتحدث بالطبع عما تيسر من نص بثته القناة، وإنما عن النص الأصلى الذي جاء في حدود الخمسة آلاف كلمة، فيما يبدو أن حساسية بعض المواضيع التي تطرق إليها قد دفعت المعنيين إلى إعمال قلم التحرير في سطوره من دون أن يغير كثيراً في حقيقة المضمون.

في الرسالة محاولة للتأكيد على حضور الرجل كواحد من المرجعيات التي تتحدث في شؤون المسلمين، وهي للأمانة مرجعية لا يمكن إغفالها تبعاً لتأثيرها على قطاع عريض من الناس، فيما تنطوي على ما هو أكبر من مجرد التأثير، أعني الفعل بالنسبة لقطاعات محدودة ولكن مؤثرة بين الشبان المسلمين.

من المفيد ابتداءً التأكيد على دلالة الحضور المتواصل لأسامة بن لادن في قلب الأحداث في العالم الإسلامي بعد ثماني سنوات من بدء مطاردته عملياً، وبعد خمس سنوات من هجمات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، وبالطبع في سياق التأكيد على الفشل الذريع الذي تعانيه حرب واشنطن على ما تسميه الإرهاب، وهو حضور ما زال يوجه الكثير من الصفعات للمحافظين الجدد وعلى رأسهم جورج بوش الذي يتمتع هذه الأيام بأسوأ شعبية في تاريخ رؤساء الولايات المتحدة منذ تأسيسها.

عودة إلى الرسالة التي كانت كما قلنا محاضرة في العلاقة بين الولايات المتحدة والغرب عموماً وبين العالم العربي والإسلامي، وكان المنطلق الذي بدأت منه هو قضية الرسوم المسيئة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، وعموم المواقف منها.

واللافت في الرسالة مجيؤها في وقت لم تعرف فيه العلاقة بين الغرب والمسلمين هذا المستوى من التكالب من الطرف الأول على الثاني، ولا نعني هنا قضية الرسوم والموقف منها فقط، إذ شهد العالم الغربي أنماطاً من الاستنكار لها من قبل الدول والشعوب، لكننا نعني الموقف السياسي والثقافي العام الذي يشهد قدراً من التوحد غير المسبوق ضد أمتنا.

ما من شك أن مواقف أخلاقية وثقافية ودينية ما زالت تلقي بظلالها على العلاقة خلال المرحلة الأخيرة، كما في قضية الحجاب في فرنسا التي لم يغفلها بن لادن، وكما في قضايا التعذيب والإساءة إلى المصحف الشريف في غوانتانامو و«أبو غريب»، ما يعني أن المسألة قد تجاوزت الشعبي أو السلوك الفردي إلى المواقف الرسمية، بصرف النظر عن الاعتذارات التالية التي لا تغير من حقيقة الموقف السياسي الإمبريالي الذي تتبناه تلك الدول.

في هذه الأيام يحدث أن يتوحد الغرب على نحو استثنائي في قضايا أساسية تمس مصالح المسلمين وكينونتهم، مثل العراق ودارفور وإيران وسوريا ولبنان، وهو وضع يختلف كثيراً عن مرحلة التحضير للحرب على العراق التي اشتبك الغرب حول مشروعيتها.

لكن قضية فلسطين تظل الأكثر وضوحاً في توحد الغرب ضد المسلمين، وقد جاء فوز حماس ليعكس الفضيحة الغربية والنفاق الغربي عندما يتعلق الأمر بقوة إسلامية تعبر عن هوية الأمة، الأمر الذي أشار إليه أسامة بن لادن في الرسالة بكل وضوح.

الأكيد أن المشهد الدولي في التعامل معنا من التعقيد والتنوع بحيث يستحيل وضعه في ذات المستوى من العداء، لكن ذلك كله لا يغير من حقيقة أن هذا القدر من الاتفاق على أكثر الملفات يبدو استثنائياً إلى حد كبير، مع بقاء التمايز واقعاً في هذا الملف أو ذاك، كما في الموقف الروسي والصيني من بعض القضايا، مع العلم أن جميع التمايزات التي شهدتها اللعبة خلال المرحلة الأخيرة قد حلت عن طريق الصفقات الجانبية ليعود الموقف إلى قدر من التقارب من جديد. ويبقى أن جوهر الحديث مركز على الولايات المتحدة والغرب أكثر من أي أحد آخر.

في الرسالة تأكيد على ذلك كله ومرور واضح على جميع الملفات التي شهدت نفاقاً غربياً أو استهدافاً غربياً للمسلمين، إذ حضر القديم منها (الشيشان والبوسنة والصومال)، في حين جرى التركيز على الجديد (العراق، دارفور، أفغانستان)، إضافة إلى القديم الجديد كما هو حال قضية فلسطين.

كعادته لم ينس بن لادن الساحة السعودية والخليجية التي يحظى فيها بشعبية كبيرة، فقد تابع الحرب الفكرية بين العلمانيين والإسلاميين في الساحة السعودية والخليجية، وأدلى بدلوه فيها، وإن على نحو إشكالي من حيث الرد العنيف الذي طالب به كما فهم من السياق، لكن المهم هو حرصه على متابعة شؤون هذه المنطقة، لاسيما الجدل الذي يشارك فيه تياره، أكان المؤمن بكامل طروحاته، أم التيار السلفي الإصلاحي الذي يتعاطف معه، وإن خالفه في طريقة الفعل.

هكذا طوف بن لادن في رسالته على قضايا الأمة ليؤكد أن حرباً صليبية صهيونية تشن ضدها، وهي بلا شك قضية مهمة بصرف النظر عن توصيف ماهية الحرب التي تأخذ طابعاً إمبريالياً، فيما تزداد شراسة بسبب حجم الصحوة التي تجتاح العالم العربي والإسلامي وتهدد بالتمرد على الإملاءات الغربية.

في الرسالة بالطبع اعتزاز كبير بالوضع في العراق والفشل الأمريكي هناك، وبالوضع في أفغانستان، أما في فلسطين فليس ثمة موقف سلبي من حماس على رغم إعلان الخلاف معها حول قضية الانتخابات، في حين تميزت الرسالة بتبشيرها بمعركة مقبلة في دارفور نتيجة التورط الغربي هناك، وهو جانب بدا بالغ الأهمية في الرسالة، ومن المتوقع أن يثير الكثير من الجدل لدى الأوساط الغربية المتابعة لهذا الملف.

ما بين توصيف الموقف من قضية الرسوم ورسم ملامح لردود الفعل الضرورية منها، وبين الرد على الهجمة الأمريكية الصهيونية الغربية يضع بن لادن أفكاراً كثيرة مثيرة لها مؤيدون ومعارضون، لكن موقف الممانعة والمقاومة، أو الجهاد كما هو التعبير الأصيل، يبقى القاسم المشترك، الأمر الذي يبدو مقنعاً في المعارك الأساسية كما في فلسطين والعراق وأفغانستان، وتالياً في دارفور إذا وقع التورط الأمريكي الأوروبي، فيما يبدو إشكالياً في مواقع أخرى ضد أهداف مدنية غربية في العالم العربي والإسلامي أو خارجه.

بصرف النظر عن الموقف من مقترحات أسامة بن لادن وطروحاته، فقد لامست الرسالة وجعاً عربياً إسلامياً نازفاً بسبب العدوان الأمريكي الغربي، وإذا لم يتوقف هذا العدوان فلن تجدي الفضائيات ولا الصحف التي تتوالد كل حين، ولم تغفلها الرسالة أيضاً.