كل ثورة هي حلم. والحلم لا يُمأسَس. ذلك هو جماله وتلك هي مصيبته أيضاً. ما إن يمأسس الحلم، حتى يفقد براءته وبريقه الغاويين. حتى يصير أي شيء إلا حلماً. حدث هذا مع ثورات البشر جميعها، وربما في كل أوقات التاريخ. حدث مع الثورة الاشتراكية، ومع الجزائرية، وأخيراً مع الثورة الفلسطينية. تتحوّل الثورة إلى مؤسسة، فتفقد معناها القديم، عاجزة عن إحلال معنى آخر، قريباً منه أو شبيهاً به. ربما يشبه الأمر، هاهنا، ما يحدث مع العشيقة، حين تدخل مؤسسة الزواج، فتفقد كل سحرها ولغزها الغاوييْن، لتعود امرأة واقعية عادية، بلا غموض خلاق، مثل ملايين النساء من الزوجات الطيبات. لقد خبر الحالمون الثوريون، والعشاق، كل هذه المعاني، ودفعوا الثمن تقلّباً بين طيّات الخيبة، وفي حالات متطرفة، صاروا عدميين، بعد أن بلغوا منطقة الغصّة والرماد. لمَ يحدث هذا مع جميع الثورات، ومع جميع البشر التاريخيين تقريباً؟ لأن البشر، في المنزع العميق منهم، هم رومانسيون، حتى لو أنكروا أو تنكروا لهذه الصفة. رومانسيون، مفارِقون للواقع الفاقع. رومانسيون، سواء جاءوا من أصول فلاحية أو مدن صناعية. وما إن يفاجئهم الواقع بتعقيداته وسفالاته العصية على الإحصاء، حتى تنهار رومانسيتهم، وتنقلب عليهم، ألماً حارقاً، وخيبات لا عدّ لها. ونحن كفلسطينيين، جاء علينا الدور لنعرف. ولقد عرفنا. نعم. لقد عرفنا ودفعنا ثمن معرفتنا: ثمن كل معرفة. فكل معرفة يتحصّلها حاملها، لا بد لها من ثمن باهظ، يدفعه المرء من عمره وجسده الشخصيين، قبل وبعد الثمن العام. اثنا عشر عاماً مرّت، منذ اتفاقية أوسلو، التي مأسست الحلم القديم، فصار الحلمُ وزارات ومراتب ومناصب وموظفين، الخ. اثنا عشر عاماً مرّت، منذ أسس ذلك الاتفاق التاريخي، بالمعنى السياسي للكلمة لا بمعناها التاريخي الحق، لمأسسة الحلم، فرأينا بألم العين الشاهدة، كيف تنقلب الأحلام على أصحابها، فيصبحوا هم وهم أولاً وأخيراً، ضحاياها بامتياز. بل يصبحوا هم، أولاً وأخيراً، ضحايا مرتيْن بدل المرة الواحدة: مرة ضحايا للاحتلال الكولونيالي الموجود في صالون البيت، بعد أن ترك غرف نومه، ومرة ضحايا للحلم ذاته، وقد انقلب، إلى كابوس، بِيد أصحابه لا بيد عمرو الإسرائيلي. تجسّدت الثورة في سلطة، وسلطة منقوصة، تسكن المنطقة الرمادية، بين الدولة والاحتلال. سلطة تلفزيونية أكثر منها واقعية. سلطة صورة، كما يمكن القول. صورة تبلغ عيون العالم، فيظن هذا الأخير، أن الشعب الفلسطيني، أخيراً ارتاح من ظلم عدوه التاريخي. وأنه استقلّ أو شيء من هذا. فها هو أبو عمار، يطير كل يوم إلى بلد. وها هو يرجع إلى غزة، فيُفرد له البساط الأحمر، ويُمدُّ له حرس الشرف، وجوقات الموسيقى، ويُعزف النشيد الوطني. فماذا يريد الفلسطينيون، أكثر من ذلك؟ لقد حصلوا أخيراً على كيان له كل مواصفات ومراسيم الدول! لكن مهلاً.. عن أية دول تتحدثون؟ عن دول حقيقية تصمد للواقع أم عن مراسيم وطقوس دول؟ بَيد أن هذا السؤال الوجودي والسياسي، لم يكن ليخطر لهم على بال. فهم بعيدون، ولا تعنيهم إلا شؤون بلدانهم الداخلية. لقد جهلوا أو تجاهلوا أننا حصلنا على طقوس دولة لا دولة. على مراسيم دولة لا دولة. على صورة دولة لا دولة. على شيء ملتبس وشاذ، تلفزيوني في المقام الأول، وتلفزيوني في المقام الأخير! شيء يصلح للتصوير، كديكور وخلفية، ولا يصلح لأن يُعاش، وتبنى على أساساته، دولة صالحة للبقاء. لقد أعطونا، إذاً، صورة لزمن الميديا والفضائيات، ولم يعطونا جنين دولة، ستتحوّل بعد حَبَل يطول أو يقصر، إلى شيء كامل الخِلْقة. ومع هذا، ولأننا واقعيون بغالبيتنا، رضينا على مضض تاريخي. وقلنا نحاول أن نحسّن شروط كياننا الوليد، عسى نصل به إلى بر الأمان. ولكن هيهات. فالاتفاق، الغامض في صياغاته، خدمَ الطرف القوي بغموضه، وجار على الطرف الأعزل الفقير. كما هو شأن كل اتفاق غامض في التاريخ. إنه حلّ أشبه بحال عائلة فقيرة تذهب إلى استديو التصوير، فيضع المصوّر الفوتوغرافي، منظراً طبيعياً جميلاً، في الخلفية، لكي تخرج الصورة، صورة الفقراء المعدمين، حلوة وجميلة، وبالأخصّ مع ابتسامات العائلة الطيبة المصطنعة! هكذا كان حالنا مع اتفاقية أوسلو، ومع أبو عمار، موقّعها. فالرجل أشهر صانع ابتسامات وقُبل في التاريخ الحديث! إنه موهوب جداً في هذا المجال، على نحو، لا يدانيه فيه أحد من زعماء العالم، الحديث وربما القديم معاً. رجل قبلات وأحضان وابتسامات هو. رجل من الطراز الأول! إنما، أكيداً، لم نكن نحن الفلسطينيين، محظوظين به وبمواهبه العالية. فنحن شعب، لسوء الحظ، لا يحيا بالقُبل والابتسامات وفتح الأحضان، على الفاضي والمليان، وحدها. ذلك أن هذه وتلك وتلكم، لا تكفي لتحقيق طموحات شعب تمرّغ في وحل الظلم، حتى صار يشكّ في وجود شيء عادل على هذه الأرض الشقية أو ما فوقها. وأبو عمار، للأسف، وربما لسبب ما، لم ينتبه لسيكلوجية شعبه، فأخذته المراسيمُ، والطقوسُ، وعزتيهما، بإثم جوعه إلى السلطة، فنسي في غمرة نشوته بها، أنه جاء لشعبه في الداخل، بما لا يروق لهم طويلاً، من حلّ جزئي، لا كلّي. من حل هو تسوية لا سلام حقيقي. وهكذا...، كان لا بد من انتفاضة ثانية، أطلق شرارتها شارون، فتلقّفها الرجل على جَرَب، فكان أن أكلت أخضر الشعب الفلسطيني قبل يابسه، لتصل بنا إلى ما نحن فيه الآن، من حال عجائبي، فريد في تاريخ الناس أجمعين. شعب يتسوّل لقمته من المحسنين، وهو الكريم الذي لا يبيع كرامته بأي ثمن. وسلطة برأسيْن، مختلفتين ومتناقضتين وتوشكان أن تكونا متحاربتين. مؤسسة الرئاسة بقيادة أبو مازن، ومؤسسة الحكومة بقيادة إسماعيل هنية. واحد فتحاوي، والثاني حمساوي. واحد لا يؤمن إلا بالمفاوضات كطريق وحيد لتحقيق الحل، وبعيداً عن أي عنف ثوري أو غير ثوري. والثاني، يؤمن بالعنف الثوري أو الجهادي، كطريق للمقاومة والضغط على الطرف الإسرائيلي. الإثنان جاءا بتفويض شعبي، وبانتخابات ديموقراطية شفافة. فمن يحلّ لنا هذه المعضلة؟ وكيف السبيل للتوفيق بين الرأسين؟ هل بالحوار الوطني، والاتفاق على الخطوط الحمراء والحدود الدنيا، التي هي بمثابة ثوابت لا يجوز الخروج عنها تحت أي حال؟ نتمنى ذلك. نتمنى أن يتحقق ذلك. وإن كنا نخشى، أن تكون جلسات هذا الحوار المزمع عقدها قريباً، مثل آلاف جلسات الحوار الوطني السابقة، أي طحن ولا طحين. فهكذا تعوّدنا، منذ عقود، لا سنوات. نجلس ونتحاور، ثم نخرج، وننسى كلامنا قبل أن يجف الحبرُ المكتوب به. حتى صرنا نحن أول العارفين بلا جدوى هذه الطريقة الفلسطينية الأشهر، في لفلفة وتأجيل المواضيع. فإن كنت تريد أن تقتل وتؤجل شيئاً، فاعقد له جلسات حوار وطني! شيء مؤسف حقاً، ولا يليق بقادة سياسيين لشعب واقع تحت قبضة احتلال. شيء يحيل على موضوعة: هل رجل السياسة عندنا، رجل عينه على المكاسب الفصائلية ويوم الانتخابات أم عينه على مستقبل الأجيال القادمة؟ إن ما يجري الآن من أحداث لا يطمئن أبداً. فالكل، يسعى إلى تحقيق نقاط في ملعب خصمه السياسي، فيما الوطن، أو ما تبقى منه، ينسرب من بين أقدام الجميع، ويؤول إلى الطرف الآخر: إلى العدو التاريخي. هذا الذي يرقب المشهد عن كثب، وهو سعيد به غاية السعادة. فها هم الفلسطينيون، منشغلون بصراع الديكة فيما بينهم، على حبة قمح هنا أو حبة شعير هناك. على صلاحيات هنا أو هنالك. فيما السيد المقتدر القادر، يرمقهم، وفي يديه كل خيوط اللعبة! فقد وضعهم في زنزانة، وجلس فوق الحائط يتفرّج! مشهد لا شك يصلح لمسرحية من تأليف يوجين يونسكو، سيد العبث الأكبر. مشهد يذكّرني بشيء ما قرأته عن صراع الديكة المريضة، وبشيء أفدح، قرأته ذات مرة، عن اتفاق الخراتيت! فالخراتيت، بينها ودّ ومصالح تاريخية. وهي عاقلة ومتحضرة وتعرف مصالحها جيداً. لذا فهي تنسّق فيما بينها بشكل ممتاز. وعما قريب، ستشرع في عرض حلّ أحادي الجانب، ومن ثم، ستشرع في تنفيذه وقائعَ على الأرض، في الضفة الغربية. حلّ لو تمّ، سيقضي على القضية الفلسطينية نهائياً. وسيحيلنا جميعاً، إلى كائنات نوستالجيا في متحف التاريخ. فهل تعي حماس خطورة هذا؟ أسألها هي، ولا أسأل مؤسسة الرئاسة، فالرجل القابع هناك، عقلاني ويعرف. أما الرجال القابعون هنا في الحكومة، فيبدو أن الطفولة السياسية، التي يتصرفون منطلقين منها وعائدين إليها، قد غمّت على عيونهم، فلم ينتبهوا لخطورة وفداحة ما يُخطط لنا، في القادم من شهور وسنوات قريبة. ستكون هي الأخطر والأسوأ، على تاريخ قضيتنا ومستقبل شعبنا. ستكون هي الأخطر والأسوأ على الإطلاق. وعليه، فنحن نضعها أمام المسؤولية التاريخية، بما هي الآن على رأس الحكومة، ونطالبها بالحوار العقلاني، مع الرئيس أبو مازن. وبالكفّ عن توتير الأجواء وتسميمها، بالتصريحات غير المسؤولة. سواء صدرت من محمد نزال، عضو المكتب السياسي لحماس، أو من غيره. فالوضع محتقن، داخلياً وخارجياً، ولا يحتمل ولا يتسع لأمثال هذه المفرقعات. وما نطلبه هاهنا من بعض قادة حماس، نطلبه أيضاً وبنفس الإلحاح من بعض قادة فتح: أن كفّوا عن العبث بالمصالح العليا لشعبكم، فكلاكما، سواء في فتح أم في حماس، في مأزق. مأزق ليس سياسياً، فحسب، وإنما هو وجودي... وجودي، فهل تفهمون معنى هذه الكلمة؟!