فقط في دروس الإنشاء للصغار، وفي أسئلة امتحاناتها، يصحّ قولٌ كهذا:

«مَن يملك ما يقدّمه للوطن، عليه أن يصبو الى أرفع المناصب فلا يتواضع، ولا يتردّد في إظهار طموحه... إشرح وعلّق».

أما في سنّ أكبر وأنضج، فيتعلّم المرء قيماً أخرى أشدّ تعقيداً، كالمسؤوليّة مثلاً، فيقال له، والحال هذه، ان طموحه الفردي اذا ما اصطدم بعقبات موضوعية، بات يُستحسن به أن يعيد النظر فيه. أو ان تلبية الطموح إذا ما ترتّب عليها إضرار بالمجموع، وتوسيع للمسافة التي تفصل شعباً ما عن إنقاذه، بات يُستحسن غضّ النظر عنها.

الكلام هذا، الأقرب الى البدائه، لا يقال بمناسبة مرور 150 عاماً على ولادة سيغموند فرويد، مؤسّس علم النفس الحديث، الذي أولى الطفولة دوراً مركزيّاً في تشكيل الفرد سلوكاً ورغبات. انه يقال في موازاة بلوغ الرقصة الرئاسيّة للعماد ميشال عون مرتبة الى الانخطاف أقرب. فالرجل يريد أن يصير رئيساً للجمهوريّة، ولا يريد إلا أن يصير رئيساً للجمهوريّة، ولا يعنيه مما يدور في الجمهوريّة وحولها إلا شروط وصوله الى الرئاسة تلك. إنه يريدها إلحاحاً وعويلاً وصراخاً وتهديداً ووعيداً، وفي المقابل تحالفاً وتنازلاً وتلوّناً. ولأن السنّ تتقدّم بصاحب الطموح، فإما الوصول الآن وإما الويل والثبور.

وفي تثبّت على الرئاسة كهذا، لا يعود مهماً الانتباه الى ما يجري في العراق وفلسطين، وبين الولايات المتحدة وايران، ولا أن تتوافر فرصة، ولو مجرد فرصة، للتوصّل الى طاقم حكم متجانس قد يساعد في اخراج لبنان من وضعه الراهن...

وما يجعل مشكلة الرجل، الخاصّة به، عامّةً وخطرةً تضافرها، من موقعين مختلفين، مع سياقين مأزومين:

فهناك، من جهة، أكثريّة المسيحيّين اللبنانيين التي تعرّضت، إبّان الحقبة السوريّة، للتهميش والعزل، فما عادت تبغي من دنياها الا «المخلّص» في ثوب رئيس جمهوريّة «قويّ». وهي، تحت تأثير الخدر هذا، ما عاد يسعها الاكتراث بأبرز حقائق السنوات القليلة الماضية، أي الانحياز التاريخيّ الذي أقدم عليه معظم الطائفة السنيّة اللبنانيّة الى ما كان تقليديّاً سياسة المسيحيين وأفكارهم. وغنيٌ عن القول إن تحوّلاً في هذا الحجم، منظوراً اليه بعين ناضجة ومسؤولة، أهم، بلا قياس، من بضعة مقاعد نيابية أخطأ فريق 14 آذار حين حاول أن يحرم عون عنها (وطبعاً، أهم من عدم استقبال عون في المطار. وهو، بدوره، خطأ).

وهناك، من جهة ثانية، الجبهة الراديكاليّة في المنطقة، الممتدّة من «حزب الله» الى ايران مروراً بسورية. وهذه تبحث الآن عن بَحص تسند به خوابيها غير المستوية، التي يهددها كلّ ميل الى الاستواء تُبديه الأرض التي تقف الخوابي عليها. وبإضافة بحصة ميشال عون الى بحصة مقتدى الصدر، والاثنان لا يعوزهما الطموح، يستند اللاعقل الاقليمي على اللاعقل المحلي، فيتراءى له أنه موشك على انتصار يرفعه عقلاً شاملاً للمنطقة.

وهذا، غني عن القول، يتعدّى المواصفات الشخصيّة لميشال عون، أو مقتدى الصدر، أو أيّ شخص آخر بذاته. غير أن سيغموند فرويد علّمنا، حين درس ليوناردو دافنشي وغيره، كيف أن الإصرار والمواظبة، وكذلك التخلّي والانقطاع، يمكن أن تكون استجابة لما قطعته النفس على نفسها في لحظات تشكّلها المبكر. ولنا أن نتخيّل، بقدر من التفنّن في استخدام الفرويديّة، رجلاً تجاوز السبعين يخاطب ذاته كلما اختلى بها: ماما، ماما، سوف أصبح بالتأكيد رئيساً للجمهوريّة.