اخشى أن نصبح مطالبين وسط هذا القدر الهائل من الانحطاط الشامل ، للبرهنة على أن سوريا اليوم لاتتلخص بالإخوان ‏المسلمين والأخوات القبيسيات،بل أنها وطن واسع المدى،كان حتى الأمس القريب مضرب الأمثال، في تنوعه الثقافي ‏والفكري والسياسي والديني والاثني. إن حقيقة أن سوريا كانت منارة ليست بحاجة إلى أي برهان، ولا أعتقد أن ذلك ‏يستدعي لأن أعيد إلى الأذهان، سرد السجل العطر لرجالات النهضة السوريين الذي كانوا رواد حداثة وتنوير، في زمن ‏كان فيه الظلام يطبق على العالم العربي.من عبد الرحمن الكواكبي، ورفيق العظم، وعبد الله الطنطاوي، وكامل القصاب، ‏وحتى الشاعر ومؤسس أول معهد موسيقي في دمشق فخري البارودي، صاحب النشيد المعروف"بلاد العرب أوطاني‎".‎

بقيت سوريا تتفرد بمكانتها التاريخية،وموقعها الجغرافي ،وتشكل نقطة تقاطع حضارات الشرق والغرب، ومحط نظر الكون،ومقصد الباحثين عن معجزة الخلق.ولم تتعثر وتصبح قرية نائية، إلا عندما حكمها البعثيون الأشاوس(بعث تشيده الجماجم والدم، حسب شاعر البعث ونقيب الصحفيين السوريين صابر فلحوط)، الذين ينحدر غالبيتهم من خلفيات زراعية، أو جبلية، أورعوية.لقد فرض هؤلاء قيمهم ومرجعياتهم الريفية والصحراوية في جميع مناحي الحياة،فتراجع الجانب الحضاري المدني الخلاق، الذي طبع المجتمع السوري، منذ الألف الخامس قبل الميلاد،عندما تأسست بداياته في حضارة" تل حلف" و"تل بيدر" و"رأس العين"، في محيط مدينة الحسكة التي شهدت اللبنات الأولى، للحضارات المؤابية والحثية والسومرية والآشورية والآرامية،وذلك في فترة سابقة حتى على "قوانين حمو رابي".

مثلما نكل ضباط الأرياف والصحارى بالقاهرة والجزائر وبغداد،وحولوها من حواضر مدنية عريقة،إلى ثكنات وأقبية للتعذيب،استباحوا دمشق وعاملوها كما يعامل الغزاة السبايا.فصارت صحراء لاينبت فيها الورد الجوري والياسمين والحبق والفل،وتحولت الغوطة الجميلة الغناء، التي تعتبر من جنان الله على الأرض،إلى مرابض لدبابات سرايا الدفاع والوحدات الخاصة وبقية الجيوش الطائفية،وحقول رماية وتمرين لجنود رفعت الأسد وعلي حيدر وعلي دوبا وشفيق فياض وعلي أصلان وعلي الصافي، وأخيرا ماهر الأسد وآصف شوكت، ومن لف لفهم من ضباط الغفلة.فلم يعد الربيع الطلق يختال ضاحكا.جف بردى مع وصول البعثيين من القرى العطشى،وغاب اللوز والجانرك والاكدنيا والكرز والمشمش الأخضر والتوت والفريز،وهاجرت الطيور التي ماكانت تتوقف عن الغناء،ولم يجد نزار قباني حتى قبرا يرتاح فيه،هو الذي قال في دمشق، مالم يقله المجنون بليلى.دمشق البيوت القديمة التي تعد ثروة تاريخية،والخانات،والأسواق.الحميدية والبزورية ومدحت باشا والصاغة العريقة في القدم،صارت تضج بالمخابرات والنصابين، بعد أن كانت مراكز تجارية لعدة قرون.

أجدني مضطرا لأن ابدأ بهذه الوقفة الطللية،لأتحدث عن أمرين استوقفاني في الآونة الأخيرة: الأول،هو زيارة وفد من حركة الإخوان المسلمين السوريين إلى لبنان.والثاني،هو كثرة الحديث عن نشاط الداعيات الإسلاميات المعروفات بالأخوات القبيسيات، نسبة إلى زعيمتهن "منيرة القبيسي".

أثار استغرابي تصرف جماعة "الأخوان المسلمين"،وتوقيت زيارة وفدها في هذا الظرف إلى لبنان.و قرأت عدة تصريحات تفسر الأمر، وترد على الأسئلة المطروحة،لكني لم اقتنع بقول المراقب العام للجماعة علي صدر الدين البيانوني،من أن "هدف الزيارة هو توثيق العلاقات مع مختلف الأطراف اللبنانية،لاسيما بعد زوال كابوس وجود القوات السورية في لبنان".هذا كلام يشبه لغة البيانات الرسمية العربية،ميزته الأساسية انه يخلو من أي معنى،ولا يقدم ولا يؤخر.كان الأجدى بالمراقب العام أن يصدر عن لغة تذهب فعليا نحو مرحلة"زوال كابوس وجود القوات السورية في لبنان"،لكنه يعرف من دون شك،إن صياغة خطاب يرقى إلى مستوى المرحلة الجديدة مهمة صعبة، لايستطيع الإخوان لوحدهم القيام بها.إنها مهمة المعارضة السورية بجميع أطيافها،أم أن البيانوني يريد الابتعاد عن بقية الأطراف،والقفز على هذه البديهية، بعد انتقل إلى جبهة الخلاص؟.

ليس لبنان بعيدا على احد،وبوسع الجميع أن يقصده،في هذا الوقت.لكن الشطارة ليست في تسجيل المواقف الإعلامية.ويعرف الأخوان أكثر من إخفاقات تجربتهم في العقدين الماضيين، إن أكثر ما اضر بالمعارضة هو ضجيجها الإعلامي،الذي كان يتم توظيفه لصالح جهات إقليمية أخرى.لقد كان المرء يعتقد أن خطورة المرحلة سرعت في نضج القوى السياسية السورية،لاسيما جماعة الأخوان التي لاتكف عن تذكيرنا بأنها حالة متقدمة على الآخرين.لكن على مايبدو أننا مانزال نحتاج إلى الكثير من الوقت والجهد، لكي نصبح جديرين بتحمل شرف مهمة التغيير الفعلي، وليس الخلبي الإعلامي الذي يذهب جفاء.

إن أكثر ما يسجل على رحلة الأخوان نحو لبنان،هو الخفة السياسية والتفرد.الخفة لأن الظرف لم ينضج بعد للمعارضة السورية لكي تطل برأسها من هناك. والتفرد،هو أن يذهب الاخوان لوحدهم،في حين أن زيارة وفد من المعارضة كان أجدى،وأسلم سياسيا،ويفهمه الناس ويتفهمونه،ولا يبدو انه فقط من باب النكاية بالنظام السوري .

لا أقول هذا الكلام من باب تسجيل المواقف أو المزايدة على جماعة الاخوان،بل من منطلق التنبيه إلى خطورة الانفراد،ولاشك بأن الاخوان يدركون مخاطر الانفراد، على وحدة عمل المعارضة،ويعرفون إن بقية فصائل المعارضة رفضت في السابق عقد تسويات مع النظام، لأنه أراد الاستفراد بهم منذ أحداث العنف في الثمانينات،ويدركون جيدا إن هذا الموقف المبدئي للمعارضة اليسارية،هو الذي شكل سور حماية لهم.وقد جسد ذلك رياض الترك تحديدا.وبالتالي،إن انفرادهم لايفيدهم،لكنه يضعف المعارضة.وأرجو أن يشيروا لنا إلى مكسب سياسي واحد، جنته المعارضة من زيارتهم المنفردة إلى لبنان.

إن التنسيق بين القوى السورية واللبنانية مطلب ملح وضروري،لكن نجاحه مشروط بالوضوح والرؤية الجماعية،والإقلاع عن الحسابات الصغيرة، والمكاسب الإعلامية المؤقتة.

أما حديث "الأخوات القبيسيات" فإنه يعتبر آخر صرعة تصدر عن النظام السوري .هو الإضافة الأكثر إثارة للجدل ،التي يصفها تقرير صحافي حديث، بأنها ظاهرة لم تعد مقتصرة على سوريا والدول العربية فحسب،بل إن حلقات"الأخوات" باتت تدق أبواب بيوت في باريس وفيينا، لتصل إلى الولايات المتحدة .

"القبيسيات"(نسبة الى الآنسة منيرة القبيسي) عبارة عن داعيات إسلاميات، يشرفن على تدريس مئات الآلاف من التلاميذ منذ نعومة أظفارهم،بطريقة محافظة تلازمهم في المرحلة اللاحقة عبر الدروس أو المساجد،وصولا إلى رعايتهم عبر المساعدات الخيرية والأهلية.ويقول التقرير أن نجلي كفتارو(المفتي الرسمي السابق للدولة) والبوطي(المفتي السياسي للنظام) اتفقا على أن "الأخوات القبيسيات يقمن بالدعاء المستمر للرئيس بشار الأسد دون التطرق إلى السياسة"،وزاد البوطي"ولاؤهن للوطن كبير".وتشير دراسة إلى أنهن يحرصن على استمالة ذوات المناصب والثريات وبنات العائلات الكبيرة ،ومن قيادات الحركة أميرة جبريل شقيقة احمد جبريل.ومن أفكارهن، أن زيارة الشام واجب ،أو لنقل حلما لكل من يتم لها الإذن بذلك.

إن الملاحظ هو أن الحركة لصيقة إلى حد كبير بالشيخ البوطي،الذي عرف عنه تنظيره للنظام،وهو صاحب الفتوى الشهيرة،التي أباح بموجبها للرئيس حافظ الأسد الصلح مع إسرائيل،ثم أنها حركة نسائية باتت منتشرة على نطاق واسع في المدن الكبرى والأرياف،ويتركز نشاطها الرئيسي على الأوساط السنية،وهي تعتمد في ذلك على نفوذ عائلات تقليدية معروفة.

إننا لسنا إزاء دكان سلفي كالتي برعت أجهزة المخابرات بفبركتها خلال السنوات الأخيرة، مثل "الأحباش" و"عصبة الأنصار" و"جند الشام" في لبنان،ولا أمام بدعة وضروب من الشعوذة والدروشة العفوية،بل أمام حركة اشمل،منظمة على نحو مدروس،تركز نشاطها على المرأة السورية،وتذهب ابعد نحو لبنان والأردن.إن الهدف من ذلك واضح،هو توظيف موجة "الأسلم" التي بدأت تجتاح الأوساط النسائية في السنوات الأخيرة،والتي ترافقت مع العودة إلى ارتداء الحجاب،والتقاليد المحافظة،ثم تحييد جزء أساسي من المجتمع وإبعاده عن أي نشاط سياسي معارض.إن النظام يخاف من دون شك أن ينتقل هذا المد المحافظ، نحو العمل السياسي، لذا يعمل على حرفه في اتجاه صوفي زائف يعتمد الخرافات،بتوجيه من الدعاة الذين وظفوا مواهبهم لخدمة النظام مثل البوطي وكفتارو.

إن الحديث عن مئات آلاف الأعضاء ،ليس رقما مبالغا فيه كما يقول بعض المطلعين،لأن هذه الحركة صارت منتشرة على نطاق واسع بعد أن حصلت على تغطية رسمية من الدولة،وصارت تقوم بممارسة الوعظ والإرشاد والدعاية لأفكارها في المساجد.وبالتالي هي نوع من اتحاد نسائي جديد بعد أن فشل الاتحاد النسائي الرسمي،وصارت سمعته سيئة على جميع المستويات.

يتضح في كل يوم أن النظام السوري قادر على الابتكار وتجديد نفسه حسب الموجة السائدة،وطالما أن الموجة إسلامية إلى حين،فلن يكون مستغربا إذا قرر تغيير مبادئ حزب البعث من العلمانية إلى الإسلامية،ولامانع أن يتحول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى حزب البعث الإسلامي الاشتراكي،بقيادة جديدة يكون النصاب الأكبر فيها للرفيقات القبيسيات،والأمانة العامة للشيخ القرضاوي.

إن الأمر لايقتصر على لعبة سياسية وقتية،بل إنه نهج يقود في نهاية المطاف إلى تحويل سوريا إلى ريف صحراوي قاحل،وقتل روح المدنية والتنوير التي عرف بها هذا البلد على مر العصور.