هل أصبحت عناصر من الداخل تقوم بمهمة ضرب الوطن من داخله، بديلا عن دور العدو الذي يضرب من الخارج، أو مكملا له؟ وهل وجدت بينهما نقطة التقاء حتى ولو من دون وعي وبلا اتفاق؟ فالعبرة بالنتائج.

.. فنحن نعيش في ظروف مناخ عالمي انتقل فيه خط المواجهة منذ سنوات من وراء الحدود، إلى الداخل. وهو مناخ تصاحبه وتروج له أفكار ونظريات عن التغير في طرق إدارة السياسات، والحروب، والضربات الاستباقية، والوجود في داخل الدول بوسائل مبتكرة، فضلا عن نظريات تراجع سيادة الدولة، وانتهاء عصر الدولة القومية، والتحول إلى نمط جديد من الدول، يتحول فيه حجم مهم من مسؤوليات الحكومات إلى منظمات، وشركات دولية متعددة الجنسيات، أضف إلى ذلك نظريات التحريض من الداخل ضد الأنظمة. أي أن الداخل مستهدف، مركزا على عناصر يسهل انقيادها لخدمة أهداف الخارج، استخداما لنظرية الثغرة، التي تعد أفضل مدخل للتسلل إلى الداخل.. الثغرة التي تتشكل من عناصر طمست لديها خاصية الانتماء للوطن، وقدسية المواطنة، نتيجة استعداد نفسي، خلقه فقدان التوازن النفسي والاجتماعي، وعززت منه تراكمات عناصر ضاغطة، في ظروف مساعدة على سهولة انسلاخها عن الشعور الغريزي بقدسية الوطن، وبالترابط المجتمعي الذي يولد الحرص على سلامة وأمن بقية مواطنيها.

فكان ما رأيناه من قتل عمدي، بتفجيرات في أسواق مزدحمة بالناس، تنسفهم وتسفك دماءهم، بعضها عمليات انتحارية تفصح عن عداء معلن للوطن.

وإذا كان هؤلاء متأثرين بفكر وأسلوب عمليات تنظيم القاعدة، فهم قد استعاضوا عن الولاء للوطن، بالولاء لعقيدة من تحولوا إلى جماعات لا وطن لها، انسحقت لديها غريزة المواطنة، وأداروا عمليات تصب في النهاية في رصيد من يتربصون في الخارج بالوطن، ويتخذون موقف العداء منه.

وإنه لمن خداع النفس التسليم بأن هؤلاء أفراد جاهزون لاستخدامهم ضد أوطانهم، لأن لديهم استعدادا طبيعيا لذلك، وإلا لكنا قد بسطنا الظاهرة إلى درجة مخلة، ونظرنا إلى ما هو ظاهر على السطح من دون توغل في العمق، فهؤلاء قد غرست فيهم بذرة الإحباط التراكمي، وليس من المصلحة تصوير الشخصيات العامة والمهنية التي تطرح هذه النقطة، على أنها هي المحبطة، بينما هي تناقش هماً عاماً، وليس حالة ذات خصوصية مهنية، ولو أننا مهتمون باستطلاعات الرأي العام، لرسمت أمام أعيننا صورة واقعية ودقيقة لحالة عامة موجودة في الشارع المصري، على مستوى المواطن العادي قبل النخبة، وان كانت صحيفة “صوت الجامعة” سبق أن أجرت تحقيقا شاملا مع طلاب الجامعات منذ سنتين، كانت أكثر صفة انتشارا بينهم هي الإحباط. فالشارع والشباب على وجه الخصوص لديه أسباب إحباطه الكثيرة والثقيلة على النفس، وعلى رأسها مسألة البطالة، الكفيلة بايجاد بؤر توتر ملتهبة.

إن مشاعر الإحباط تغذي بعضها، وتزيدها التهابا، سياسات خارجية هدفها إحداث الانكسار المعنوي في نفوس العرب، بما يجري في فلسطين والعراق، يقابله سكون عربي بلا مبادرة لها منهج للعمل السياسي، واستراتيجية للأمن القومي.

نحن الآن أمام خطر يهدد مستقبل أمة، وإذا كان هذا الخطر الإرهاب خيانة للوطن، فهو سلوك خارج على القانون. وبالتالي فإن تأكيد هيبة القانون أمر حيوي لدحر الإرهاب، وسد أي منافذ أمامه ينفذ منها أو يتستر في دروبها. فدولة القانون هي مصدر الطاقة التي تشحن الشعور بالانتماء، أما لو خفتت هيبة القانون، ففي ذلك تحريض لكل منفلت لأن يكون له قانونه، الذي يسعى لفرضه بسلوكيات التعصب والتطرف. ولكم أن ترصدوا في كل شارع، مظاهر مخالفة القانون وانتهاكه جهارا نهارا، في أمور متعددة بينها الأجهزة المختصة بمنع هذه السلوكيات تطبيقا للقانون، في حالة استرخاء وتهاون.

ولما كانت المخاطر تتحرك على مستويات، بعض منها ظاهر وكثير منها خفي، فإن سد الفراغ الذي تتحرك فيه، بسلوكياتها المنغلقة المضادة للقانون وللوطن، يحتاج بشكل جوهري وأساسي لبعث الحياة في ما يسمى دولة المؤسسات، وذلك بإطلاق حرية هذه المؤسسات التي اعطاها لها القانون والدستور، لتمارس دورها الطبيعي، في الرقابة، ووضع القانون موضع التنفيذ في الحال، ومن دون تفرقة أو تمييز، واستقلالية سلطات الدولة، وهو شيء من شأنه ان تفيض حيويته على جميع جوانب الحياة في الدولة، وتستنهض هممها، وتنقلها كجماعات وأفراد من وضع عدم الاكتراث، والسلبية المقصودة طوعا، إلى حالة من التحفز والتأهب الإيجابي.

عندئذ يعم الوطن مناخ تختنق فيه النزعات المنفلتة، وترتدع السلوكيات العدائية للقانون وللوطن، وتنتفض في العروق مشاعر الانتماء، ويصبح الوطن سدا منيعا في وجه أي تحركات من الخارج تستند إلى ظروف المناخ العالمي الذي تغير، أو أي خروج على المصلحة العامة من عناصر في الداخل مضادة للقانون والوطن. إن العصر قد تغير، ولم يعد الزمن هو الزمن، واختلفت استراتيجيات الدول لمباشرة وسائل إدارة سياسات الأمن القومي، وحدث تدخل بين ما يدور في الخارج وما يجري في الداخل. وعبر مداخل ودروب هذا التداخل صاروا يوجدون لهم ركائز تتوافر فيها شروط الانفلات النفسي والاجتماعي بتأثير إحباط، أو احتقان، أو خيبة أمل، لتلعب دورا داعما ومعاونا ولو بغير وعي لمخططات كانت تصوب ضرباتها من الخارج.