قررت «الرباعية» الدولية أن تخفف من قبضتها وحصارها المفروضين على الفلسطينيين لمصلحة اسرائيل. لا انهاء لسياسة التجويع وانما مجرد تنويع على هذه السياسة لإطالتها. «الرباعية» تعطي العالم مرة اخرى درساً جديداً في الابتزاز: لا سياسة عند كبار المجتمع الدولي إلا سياسة التجويع للحصول على تنازلات سياسية لمصلحة اسرائيل... ولا داعي للأوهام، فهذا الابتزاز بدأ قبل الانتخابات الفلسطينية وقبل مجيء «حماس» الى السلطة. ما تغير هو المعادلة. كانوا يقولون للرئيس محمود عباس: لا ضرب لـ «الارهاب» لا مساعدات. والآن يقولون: إذا لم تعترف «حماس» باسرائيل و... و... فلا مساعدات. وطالما ان «الرباعية» تسير وفق الأجندة الاسرائيلية فستكون لديها دائماً شروط مقابل لقمة العيش للشعب الفلسطيني. لم يعد مطروحاً «السلام مقابل الأرض» ولا حتى «الأمن مقابل السلام». المطروح ان تتصرف اسرائيل بما يريحها ويرضيها ولا يؤلمها مقابل ان يتاح للفلسطينيين ان يعيشوا في السجون الكبيرة التي رتبها لهم مجرمو الحرب الاسرائيليون، كما في غوانتانامو، فلا يُسمع لهم صوت ولا احتجاج.

هذا التحلل من القيم لدى «الرباعية» نكاد نجده على نحو اسوأ اليوم في مشروع الحرب الأهلية الذي بدأ يرسم معالمه بين الفلسطينيين. بين «حماس» التي لم تكن جاهزة ابداً لتسلم السلطة، و «فتح» التي ذهبت بالسلطة الى التهلكة، لا يبدو الشعب الفلسطيني محظوظاً أبداً. ففي الذهاب الى التقاتل يبرهن الطرفان انهما بلا أي مسؤولية ولا أي وطنية ولا حتى أي رحمة بمواطنيهم. إذا أوصلت «حماس» السلطة الى حالة الشلل وعدم القدرة على العمل والتحرك، فلا داعي لأن تفاقم هذا الوضع الذي لم تسع اليه بالهروب الى التقاتل الأهلي حتى إن لم تكن ترغب فيه. وإذا كانت «فتح» قد فشلت في الاحتفاظ بالسلطة، بسبب سوء الاحوال المعيشية واستشراء الفساد والخلافات بين أجنحتها وأقطابها، فإن انقاذها من عثرتها لن يكون ابداً باقتياد فلسطين الى مواجهة بين البيت والبيت، فاسرائيل دمرت بيوتاً كثيرة ولا داعي للتجند بإكمال جرائمها بين الأخ وأخيه.

هذا الانقسام الفلسطيني بات مقرفاً وممضّاً بمقدار ما هي مواقف المجتمع الدولي الذي يعطي اشارات مذهلة بخبثها اللاانساني. فما معنى ان تتبرع الولايات المتحدة ببضعة ملايين دولار أدوية ما دامت تحجب عشرات الملايين وتمنع وصول مساعدات عربية وتتسبب بالتالي باستفحال الصعوبات الصحية، هل تريد ان تبدو انسانية حريصة على صحة الشعب الذي تجوّعه وتعذبه وتحتقر حقوقه وكرامته، أم أنها تريد التبرع لشركات الأدوية؟ وما معنى ان تنشغل «الرباعية» بالسعي الى ايجاد أفضل حيلة ممكنة لإيصال «مساعدات موقتة» الى الفلسطينيين، حيلة سيلتقي جمع من «الخبراء» لابتكارها وتسميتها «آلية». الأمر يبدو كأنه يتطلب اللجوء الى أساليب المافيا وعصابات التهريب للتعرف الى افضل ما توصلت اليه في مجال غسيل الأموال. بكل بساطة، سيتوصلون الى تكليف اسرائيل بايصال الرواتب الى الموظفين الفلسطينيين، بمعرفتها وبحرصها على حرمان أي موظف جديد عينته «حماس» من أي راتب. ومنذ الآن يقول هؤلاء «الخبراء» إن المسألة تتطلب أسابيع قبل التوصل الى «الآلية»، أي ان أمام الموظفين شهراً آخر على الأقل من الانتظار.

كالعادة، لم يكن عند «الرباعية» ما تطالب به اسرائيل، باستثناء الترهات الاعتيادية التي تدعو الطرفين الى التزام «خريطة الطريق»، مع التشديد على «حماس» بالشروط المعروفة. ولا عجب فـ «الرباعية» لم تعد تعتبر نفسها معنية بشيء اسمه «سلام» أو «تسوية»، وهي تتجه بقوة الى تولي ايصال شحنات الوقود والطحين والأدوية، وفقاً لما تسمح لها به اسرائيل. وعلى رغم ان هناك اتصالات سياسية بين الأميركيين والاسرائيليين والأوروبيين من جهة و «حماس» من جهة أخرى، وعلى رغم أن هذه الاتصالات تتم وفقاً لمسودات وتتضمن تبادلاً سلساً للأفكار، إلا أن «الرباعية» لا تزال تفضل طريقة الابتزاز لنيل اعتراف «حماس» باسرائيل.

في كل الأحوال، يشكل قرار «الرباعية» بالنسبة الى المساعدات، تعديلاً طفيفاً في التعنت المنهجي الذي اعتمد منذ وصول «حماس» الى السلطة. وما يرجى هو أن تنجح الاتصالات الجارية بين «حماس» و «فتح» في تبديد أجواء الحرب الأهلية. ومطلوب من الحركتين أن تكونا مصممتين وصادقتين وأن تبرهنا ذلك عملياً، لأن أحداً لم يعد يصدق الخطابات والتصريحات.