حزب الشعب الديمقراطي السوري

مرّ الآن على صدور إعلان دمشق أكثر من ستة أشهر، بل سبعة.

وكان واضحاً منذ ذلك اليوم، أنه يمكن أن يجسد لحظة انعطاف في تاريخ سورية الحديث والمعاصر، أو أن يتحول إلى مجرّد مناسبة لخيبة جديدة وتفريغ لآمال الناس وطموحاتها من محتواها القادر بالفعل على التغيير. وقد انصبّ الاهتمام المركّز على الاحتمال الأول، لعلّه يكون الحقيقة المحتملة الوحيدة.. وهو قادر بالفعل على ذلك.

أينما ذهبت الاجتهادات والنظرات حول الإعلان ونصوصه، بإجمالها وبلاغتها، أو بركاكتها أحياناً، فإن هنالك معاني أساسية خلفه لم تخطئها الأعين الناقدة، وأدركتها على الفور:

فالإعلان كان قبل أيّ شيء آخر، تعبيراً عن القطع مع النظام، أو أنه وصول الجميع معاً إلى اليأس من إمكان إسهام النظام في عملية التغيير، والرجوع من رصيف الانتظار والاستسلام لإغراء السلطة وإرهابها و"إصلاحيتها" المزعومة، إلى طريق التغيير الذي يمسك الشعب بزمامه من خلال قواه المعارضة الحية الحالية والتي سوف تظهر في المستقبل. بكلمة أخرى أكثر صراحة: كان الإعلان تعبيراً عن تزايد ضعف الرهان على النظام، وعودة المراهنين إلى مواقعهم الأصلية، المعارِضة شكلاً ومضموناً.

وثانياً، كان الإعلان تعبيراً عن إمكان وحدة المعارضة وتجسيداً أوليّاً لها. انصبّت رسائل التأييد والانضمام فوراً، وشملت طيفاً واسعا في الداخل والخارج، في تعبير واضح للمرة الأولى عن وحدة الشعب صفّاً واحداً في الجهة المواجهة للاستبداد. وبعد أكثر من ربع قرن على المواجهة الأولى الفاشلة بسبب الافتراق ما بين "المعارضات" وأساليبها آنذاك، تغدو وحدة المعارضة الآن بديهية لا يناقشها أحد ولا يعترض على أهميتها وضرورتها.

وثالثاً، جاء الإعلان تعبيراً عملياً موثّقاً وموقّعاً، على أنّ برنامج المعارضة في سورية بسيط وواضح ومحدد، يهدف إلى الخلاص من الاستبداد وإقامة دولة دستورية ديمقراطية، مدنية وحديثة، بموافقة الجميع. بذلك أعطى عيّنة أولى أيضاً عن الأرضية التي سوف يقف عليها أيّ مؤتمر وطني أو حكومة انتقالية في المستقبل.

في طريقه وطريقته، كان الإعلان أيضاً تعبيراً عن إمكانية أن يكون "الداخل" هو الأصل في عملية التغيير. أو أن هذه العملية تعتمد في مداها وأصالتها ونجاحها على هذا الداخل أولاً، مع تقدير قيمة العوامل الخارجية من عمل معارض منفي ومغترب أو قوى دولية تدعم قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان في بلادنا.

كذلك، كان ردّاً سياسياً قوياً على مرتكز دفاع النظام عن نفسه وعن استبداده، في منطق أن الفوضى أو الهيمنة الأصولية هما الاحتمالان الوحيدان في حالة الانهيار أو التغيير. فلقد برهنت سورية على أن هنالك بديلاً ممكناً آخر، يشكّل الإعلان أولّ تجربة على وجوده، حتى ولو بنواةٍ أولية بعد. هذه النواة تثبت أن التوافق ممكن، ووحدة الشعب الوطنية ممكنة أيضاً.

بذلك، أصبح واضحاً أن الإعلان ليس مجرّد "إعلان"، بل هو ميثاق للمعارضة السورية ولوحدتها، وأساس لعملها من أجل التغيير والوصول إلى النظام الوطني الديمقراطي المنشود، ووعاء لتجميع القوى وتنظيم عملها. بذلك أيضاً، أصبح واضحاً أن الإعلان قد خرج من قبضة منشئيه وموقّعيه أنفسهم، ليصبح ملكاً للناس والتاريخ، ومرتكزاً لعمل من يعمل، كائناً من كان. أصبح الإعلان إعلاناً عن ابتداء ساعة العمل وساحته، لمن يريد. ومن يحاول أن يتصرّف كأنه مالك لحقوق الملكية الفكرية والسياسية في الإعلان، ومحدّد لمصائره ومآلاته، سوف يبدو خارجاً عنه، وعقبة في طريقه. لا ننتقص هنا من القيادات التي كان لها دور بارز في الخطوة الأولى الكبيرة، ونقف احتراماً لها، لكننا نرصد أيضاً كل من يحاول أن يفرّط في جوهر الإعلان ويفتح أبواب الخيبة والتراجع.

لقد انهمر سيل جارف من التأييد للإعلان منذ لحظة صدوره، كان مناسبة للسرور ومدعاة للارتياح. ومثل هذه الحالة تدفع إلى العمل والدأب والانكباب على استثمارها والانتقال، من ثم، إما إلى الخطوات الملموسة على الأرض، أو إلى حالة الفرح بذاته المأخوذ بردود الفعل، الحريص على ألاّ يخسر شيئاً من متاع الدنيا.

حالة تمزج ما بين الحالتين تلك التي قابلت بها قيادة الإعلان أشكالا من الضغوط المتأتية من قبل السلطة من جهة، ومن قبل أطراف مختلفة من جهة أخرى، وجد كلّ منها في الفقرة التي تخصّه مساساً ببعض ما يريد، ومن تفاصيل ما يطمح إليه. وليس في طبيعة أية وثيقة توافقية ألاّ تكون متوسطة ما بين الآراء، أو أن تفرد لكلّ كلَّ ما يريد. تلك هي اللحظة السياسية بامتياز، التي يبدو أنه لن يكون سهلاً على من عاش طويلاً في أجواء غير سياسية، وتُحرّم فيها السياسة، أن يرتفع إلى مستواها.

وفي حين كان انشقاق السيد عبد الحليم خدام، وما أحاط به وتبعه، تعبيراً عن تأثير الحالة الأولى، واستجابة للضغط والنهوض الكامن والمختزن في الإعلان، فقد ابتدأت ظواهر أخرى بالتعبير عن نفسها.

ففي تلك الأجواء نفسها، جاء "البيان التوضيحي" على الإعلان في أواخر كانون الثاني، يحاول أن يرضي الجميع حتى الثمالة، بل ويرضي السلطة أيضاً، بشكل غير مباشر. لذلك كان البيان المذكور انتكاسة وخطوة إلى وراء بالفعل، بعد تلك القفزة الكبيرة إلى أمام التي شكّلها صدور الإعلان قبل ذلك بحوالي ثلاثة أشهر.

بماذا تجلّى ذلك؟

أولاً، وقبل أيّ تفاصيل غير ضرورية، جاءت تلك التوضيحات شكلاً للتعبير عن الثغرات في الممارسة، بل عن نقص هذه الممارسة وحالة الكسل التي رافقت النشوة بنجاح الخطوة الكبيرة. كانت شكلاً للتعبير أيضاً عن بعض الافتقار إلى الروح الكفاحية من أجل ما أُعلن عنه، وحساباً زائد الوزن للسلطة وطلباتها ومتطلباتها ونواياها القمعية. كان هذا جواً مخيّماً وضاغطاً، حتى ولو لم يكن مشخصناً بشكل واضح ومتبلور تماماً.

وثانياً، جاءت التوضيحات تصحيحاً مفترضاً لما ينبغي أن يكون نصّاً واقفاً بذاته، حتى مع التحفّظ هنا وهناك عليه من هذا أو ذاك. لقد انحرف فهم ما يقوله الإعلان عن كونه مفتوحاً للنقد والنقاش، إلى حالة "أيديولوجية" أو "ثقافية" محضة من الجدال الذي يستطيع إلهاء القوى السياسية عن الانهماك في تنظيم الشعب وحشده خلف المهمة التي حددها الإعلان في عناوينه الرئيسة، وهي التغيير والانتقال بالبلاد من حالة الاستبداد إلى حالة الديمقراطية.

وثالثاً، كانت "التوضيحات"، في جانب منها، عودة إلى رحاب الاهتمامات الخارجية التي كان الإعلان قد عاد بدوره منها إلى سورية بذاتها، من خلال تقليص مطلوب لحجم المهام القومية وإعادة ترتيبها بتكريس المهمة الوطنية المباشرة، مع تزايد الإدراك بأن الأساس هو في حلّ مسألة الاستبداد، وهذا هو المدخل الناجع لأي مهمة قومية أو إنسانية. كانت أيضاً خضوعاً للضغوط التي مارسها البعض، في السلطة والمعارضة معا، والتهديد بالقمع من جهة وبالابتزاز من جهة أخرى. ولم يكن ليحدث هذا لو انهمكت قيادة قوى الإعلان في حمى العمل ووضعت الآخرين أمام مسؤولياتهم "العملية" مباشرة، بدل الغرق في المياه الافتراضية.

في النتيجة والمضمون، كانت "التوضيحات" انتكاسة وخطوة أولى إلى وراء. ربما تناقص الاهتمام بها بعد الانشغال بالخطوة الثانية، التي ما تزال تحت التشكيل، وما يزال حجم تأثيرها مجهولاً بعد.

ففي أواسط آذار الماضي، فوجئ كثيرون بإعلان "جبهة الخلاص الوطني" من بروكسل، بعد لقاء دعا إليه السيدان عبد الحليم خدام النائب السابق لرئيس الجمهورية وعلي صدر الدين البيانو ني المرشد العام للإخوان المسلمين في سورية وحضرته شخصيات معارضة في المنفى. وشكّل الإعلان عن الجبهة ومشروعها للتغيير محوراً للاهتمام العاصف في السلطة والمعارضة على حد سواء، وفي أوساط إعلان دمشق. وتراوحت ردود الفعل بين الغضب والاستنكار في صفوف أنصار النظام وفي صفوف بعض المعارضين الذين كانوا قلقين وحذرين أمام تقدم خدام إلى مراكز قيادية، ومن عدم استشارة الإخوان لقوى إعلان دمشق في خطوتهم هذه.. إلى الترحيب بالخطوة في أوساط أخرى تفاءلت باحتمال التعجيل بعملية التغيير، وبالحرج والارتباك اللذين أصابا النظام جراء الضجة الإعلامية الخارجية والاهتمام الداخلي الكبير.

ولم يحسم النقاش في أوساط المعارضة إلا صدور بيان "اللجنة المؤقتة لإعلان دمشق" في 27/3، الذي اكتفى بالإشارة إلى أن اللجنة لم تكن على علم بتلك الخطوة، وهي غير معنية بها ولا بما صدر عنها. فكان بذلك إتاحة نسبية لحرية الحركة والتنوع في الأساليب والاجتهادات من أجل الهدف الواحد، ما بين داخل وخارج، وما بين القوى الأكثر قرباً بعضها من بعض في كلّ ميدان من الميادين.

لكن، لم تتوقف المسألة عند ذلك، بل تفاقمت بتدخل السلطة وأجهزتها، وبتردد بعض المعارضين واندفاعهم للتعبير بأشكال مختلفة عن مواقفهم الخاصة والمغايرة لموقف الإعلان. فقد طلبت الأجهزة الأمنية مباشرة، و"على عينك يا تاجر"، من قيادات إعلان دمشق أن تعمل على فصل وعزل جماعة الإخوان المسلمين من صفوفها، ومنعت اجتماع لجنة الإعلان في السادس من نيسان، ثمّ حاصرته حين انعقد في مكان آخر.

وليس هذا أيضاً بمشكلة بعد، فالطبيعي أن تزداد صلابة الموقف بعد الضغوط الفاضحة المعلنة. لكنها أخذت في الظهور بطرق ونوايا متعددة، تؤسس لتقسيم المعارضة وتراجع "الإعلان" حتى يغدو مجرد "توضيحات" ميتة عاجزة عن خلق تيار جارف يكبر حتى يقوم بدوره في إنهاء الاستبداد وبناء الاستقلال على أساس من الديمقراطية. يمكن لذلك أن يحدث قبل إنجاز مهمة توحيد المعارضة، وتصليب عودها على أسس وفي مؤسسات، لا بدّ من تكوينها، لمواجهة المهمة المطروحة الكبرى.

لذلك لم يعد هناك بد من إعادة ترتيب المهام المباشرة، وتوضيحها بطريقة صريحة.

وأولاها مسألة وحدة المعارضة الشاملة والعريضة، التي ينبغي أن تصبح معيار التقويم والنظر في المواقف والقرارات والسياسات، ومحكاً لصحتها ولزومها من خطلها وهذرها. وحين يصبح الأمر هكذا، لا يُنظر لأية خطوة إلاّ من حيث إسهامها في مواجهة الاستبداد وتقريب أمد نهايته.

وثانيها قوة هذه المعارضة، وتناميها، لتشمل أوساطاً شعبية جديدة، وتحشد دعماً متزايداً في البلاد وخارجها لقضية الحرية والديمقراطية. فالحديث لم يتوقف أبداً عن ضعف المعارضة ومحدودية انتشارها وتأثيرها في المجتمع، خاصة بين الشباب، وعن ضعف تنظيمها في الداخل والخارج، الأمر الذي يكون سبباً دائماً للحديث عن دور الخارج، وتنامي حالة انتظار هذا الدور في الأوساط الأكثر غضباً من الاستبداد واستعجالاً للتغيير. وعند أخذ هذه المسألة بالاعتبار يكون الموقف من أية خطوة عملياً أكثر وعلمياً أكثر، وهادئاً غير تناحري أيضاً.

عند ذلك، قد تصبح الخطوتان إلى وراء، استعداداً لقفزة كبيرة تالية إلى أمام، كما يقال.

وثالثها فعل هذه المعارضة وفعاليتها، في الحراك العام، والعمل الإعلامي والتنظيمي، وتوسيع انتشار أنصار قضيتنا في كل مكان. هذا يعني أن تتم معالجة المسائل من خلال تأثيرها المباشر أو اللاحق "على حجم البيدر".

حين تتقدم هذه المسائل إلى واجهة الاهتمام، وتصبح أساساً للحساب والممارسة، عندها قد تصبح الخطوتان وراءنا بالفعل.