"إن لبنان يحافظ على وحدته بتطبيق الأسس الفيديرالية التي تناسب وضعه، وهي فيديرالية التجمعات الطائفية، وليس مبدأ فيديرالية مناطق او دول".

من مذكرة لـ"تجمع النواب الموارنة المستقلين"

(16 /1/ 1984)
يخطىء من يظن ان في وسعه تشويه اي حركة مطلبية بمجرد اتهامها بأنها مسيّسة. ذلك أن جميع الحركات الشعبية هي حركات سياسية في اصلها، لأنها تنطلق من شعور بعدم التكافؤ في القوة بينها وبين السلطة التي تملك ادوات الفرض والالزام، فتتضامن في ما بينها لتحقيق هدف مشترك. وهل في السياسة اكثر من ذلك؟

وكم كان مهدّئا للسلام الاجتماعي سلوك السلطة غير مسلك التشويش والتهويل، واتهام المتظاهرين اول من امس بـ"العمالة"، متكئة على "تيارها" السياسي الذي "عيّر" الجماعات المطلبية والاحزاب والتيارات الداعمة لها بأنها انما تنفّذ "امر عمليات" صادراً اليها من سوريا.

علماً ان لا احد يشك في ان سوريا كامنة لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة على كل المفترقات الممكنة، وانها ستكون "حاضرة" عبر حلفائها، المنظورين والسريين، وستستخدم كل الوسائل لاسقاطها. وان الحكومة ستقاوم ذلك بكل الوسائل المتاحة، داخليا وخارجيا.

ولكن اذا استمر انشغال الحكومة في مواجهة المعارضة التي تعمل لاسقاطها وتعذّر تأليف حكومة اتحاد وطني، فماذا ترانا نفعل بعد مرور 452 يوما على استشهاد الرئيس الحريري في 14 شباط 2005؟ وهل ننتظر اليوم الالف او اليوم المليون؟

لا شيء يوحي اننا نقترب من اليوم الذي تعلن فيه لجنة التحقيق الدولية اسماء السوريين واللبنانيين وسواهم من المتورطين في اغتيال الرئيس الحريري ورفاقه.

واقرب الدلائل على عدم الاقتراب هذا ان ورشة قد فُتحت اول من امس، اي في اليوم الـ 450 للجريمة، وسط الساحة التي استهدف فيها الحريري ورفاقه، من اجل نبش الحفرة الكبرى التي احدثها الانفجار في الشارع، قبالة فندق سان جورج، بغية التحقق للمرة الالف ربما مما اذا كان التفجير حصل تحت الارض وفوقها بعدما ابقي الاحتمال الاول مفتوحا، فضلا عن وجود جثة مجهولة الصاحب منذ ذلك النهار من شباط 2005.

وهذا "المطّ" في التحقيق قد يُبقينا أسرى له وللدور السوري في التفجير والاغتيال زمنا غير منظور. فماذا سنفعل في هذا الوقت "الضائع" الذي يفصلنا عن الحقيقة التي ننشدها كلنا، وينتظرها العالم؟

هل نظل نتحارب وسوريا حول الترسيم والتبادل الديبلوماسي اللذين ترفضهما، أم نسعى الى تعريب الخلاف معها، رغم عدم ثقة أطراف أساسيين في قوى 14 آذار بالتعريب، وخصوصا بعد ما جرى في قمة الخرطوم؟

وما مدى قدرة المجتمع الدولي الذي يدفعنا الى نزع سلاح المقاومة قبل انهاء ملف شبعا وانسحاب اسرائيل منها، على اجبار "حزب الله" على تسليم سلاحه الى الدولة اللبنانية؟

ثم الى أين يمكن ان يصل الحوار الوطني حول القضايا السيادية في ظل الانقسام الكبير بين اللبنانيين والذي أظهرته التظاهرة المطلبية بوضوح كلي، ووسط ضياع وفقدان البوصلة في الاولويات؟

وقد تبين، من خلال التظاهرة وما أثارته من ردود فعل مختلفة، ان هموم الناس واهتماماتهم، لا يمكن ربطها بالتحقيق الدولي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. ولا حتى بالحوار الوطني، ومداولات مجلس الامن، وخصوصا مع تفاقم الازمة الاقتصادية، وتدهور الاحوال المعيشية للمواطنين والتي تترجمها نقابة أصحاب الافران بالتلويح برفع سعر الخبز تحت وطأة ارتفاع أسعار المحروقات.

والواقع ان ثمة تعاملا غير عقلاني مع معظم القضايا التي يشملها العداد الحريري الذي تصعد إبرته اليوم الى الرقم 452، وتقاس كل خطوة لـ"الحريريين" بمدى رضى الشهيد رفيق الحريري على سياساتهم وتصرفاتهم.

لذلك يستنسب البعض سؤال الرئيس الحريري، في عليائه، اذا كان راضيا عما يفعله تياره والانصار. إذ سبق للنائب وليد جنبلاط ان سُئل عن مدى صواب ما يفعله فأجاب: "أعتقد ان كمال جنبلاط حيث هو سيكون راضيا عما أفعله".

بماذا يمكن الحريري ان يجيب؟

"مع مرور 452 يوما على استشهادي على أيدي السوريين وأعوانهم من اللبنانيين، أخشى ان يمر وقت طويل قبل معرفة الحقيقة. كذلك أخشى ألا يصل التحقيق الى الحقيقة. وكلنا نعرف براعة السوريين في اخفاء أدوات الجريمة وأبطالها.

على أي حال الى الآن لم تعرف الحقيقة كاملة في اغتيال الرئيس الاميركي جون كينيدي رغم مرور قرابة نصف قرن على اغتياله.

لذلك، أنصح لكم بعدم رهن لبنان ومستقبله بالحقيقة التي قد يطول الوصول اليها. كذلك أنصح لكم بتوسيط الاخوان العرب مع سوريا بدل اغاظتها باللجوء الى المحافل الدولية. فدمشق لا تفهم بهذه اللغة. وأخشى ما أخشاه ان تستعمل الضغط الدولي عليها للانتقام من لبنان وافتعال الاحداث فيه. وسواتر عرسال هي مثال بسيط. فلا تقعوا في الفخ.

ويكفيكم فخرا واعتزازا أني افتديت استقلال لبنان وسيادته وحريته بدمي ودم رفيقي باسل فليحان وسائر الاخوان الذين كانوا معي في 14 شباط. من هنا أرجوكم ألا توفروا وسيلة لتوحيد اللبنانيين. واذا شئتم ان تكونوا أوفياء لشهادتنا، فلا تزيدوا الامور تعقيدا لا مع "حزب الله" ولا مع العماد ميشال عون، لان لا وفاق ولا اتفاق من دونهما، رغم مآخذكم عليهما. وسيبقى عدم التفاهم معهما حجر عثرة في طريق الوفاق. ولا مجال اطلاقا لتجاهل ما يمثلان شيعياً ومسيحياً وحتى سورياً، نظراً الى ان دمشق تفضل محاورة زعيم مسيحي قوي على زعيم سني او درزي او شيعي.

ولا اهنئكم اطلاقا بابقاء قيصر بعبدا فوق كرسيه وهو وكيل نظام الوصاية والمسؤول الاول والاخير عن المؤامرة التي ادت الى اغتيالي، زاعمين ان بقاءه رئيسا ارخص من احلال الجنرال مكانه. وهذا منتهى الغباء. اذ لا يجوز تجاهل رغبة الاكثرية المسيحية التي يمثل في ترئيسه. وربما كان الاجدى التعاون معه بدل محاربته.

واود ان الفت نظركم الى ان المعارضة التي يلقاها البرنامج الاصلاحي في مرحلته الاولى، هي صورة عن المعارضة التي واجهها برنامجي الذي طرحته في اول حكومة توليتها، ولا يزال في لبنان من يعارض "برنامج الحريري" وطموحاته، امثال البطريرك صفير الذي اتهمني ذات مرة وانا في بكركي بأسلمة لبنان من طريق شراء ممتلكات مسيحية في اماكن مختلفة منه، وصار بيننا حوار حول هذه الامثلة، وقال لي "انكم تشترون اراضي المسيحيين". والناس لا تنسى.

لذلك ارجعوا الى الطائف لانه بمثابة انجيل وقرآن لجميع اللبنانيين، واجعلوه هاديا لكم لاعادة بناء الوطن حيث "لبنان اولا"، واعطوا الآخرين المثال الصالح، وإن ضحيتم في سبيل ذلك بمواقف تعتبرونها من الثوابت. فلا حل بدون تسويات، ولا تسويات بدون تنازلات.

واني أُعفيكم من حمل استشهادي سلما بالعرض اذا كان ذلك ينقذ لبنان ويعيد اليه استقلاله وسيادته وقراره الحر. وانا لي الله وعدله ورحمته، ونفسي غير تواقة لا الى الثأر ولا الى الانتقام، تماماً مثل صديقي غسان تويني الذي رفض الانتقام والثأر من قاتلي ابنه الوحيد جبران، تاركا للعدالة الالهية ان تأخذ مجراها، نظرا الى عدم ايماننا معا بالعدالة الزمنية.

اوصيكم بالوحدة، مهما يكن ثمنها، لان فيها الخلاص والانقاذ. ولا نفع للاكثرية وحكمها اذا كانت عاجزة عن جمع اللبنانيين وتوحيدهم حول القضية التي استشهدتُ من اجلها". فهل من يسمع؟