إيلاف

نشر المحلل في صحيفة الواشنطن بوست "روبرت إيسن" تحليلا عن تاريخ العلاقة بين المسلمين واليهود وعرض بشكل مختصر أسبا الخلاف والتصورات التي يحملها كلا الطرفان عن بعضيهما، وحاول الكاتب أن يجد أرضية مشتركة ينطلق منها الطرفان للوصول إلى السلام في المنطقة واقترح أن يدخل رجال الدين في مفاوضلات السلام نظرا لأن السبب الأساسي للخلاف هو ديني ونظرا لفشل السياسيين في الوصول إلى حل طوال هذه السنوات، وفي ما يلي مقال الكاتب:

لطالما كان ملاحظاً أن السبب الرئيسي وراء التصلب في النزاع بين المسلمين واليهود في الشرق الأوسط هو أن كلا الجماعتين تعملان بمجموعةٍ خاصة متبادلة من الافتراضات المتعلقة بتاريخ النزاع.

إذ يرى اليهود أن دولة إسرائيل تمثل انتصاراً للمطرودين الذين انتظروا 2000 سنة كي يعودوا إلى بلادهم. وإذا كان العنف قد ارتبط بهذه العودة فذلك فقط بسبب العناد العربي, فاليهود يرغبون أن يعيشوا بسلام مع جيرانهم العرب ولكن العرب كانوا معادين لنشأة كيانٍ يهودي مستقل في الشرق الأوسط وأعلنوا الحرب عليه منذ البداية.

أما المسلمون فيرون أن دولة إسرائيل هي المثال الأكثر شناعة على الاستعمار والإمبريالية الغربية, وأنها جسد دخيل على دول الشرق الأوسط الهدف منه هو زيادة السيطرة الغربية. وأن العنف هو خطأ إسرائيل وحلفائها الغربيين. كما أن اليهود استطاعوا أن يمتلكوا الأرض بطرد أهلها منها بالقوة, ونجحوا في السيطرة عليها بمساندة الدعم العسكري الغربي.

ما ضُيّع في هذا النزاع هو حقيقة أن المسلمين واليهود لديهم عدداً كبيراً من الأمور المشتركة في الطريقة التي يفهمون بها تاريخهم كل على حدة. فكل جماعةٍ تفهم تاريخها الخاص بها الذي هو أوسع بكثير مما يشمله هذا النزاع, ونستطيع أن ندرك طبيعة النزاع بصورةٍ أكبر بمحاولة فهم هذه الأُطر الكبيرة.

فلنأخذ الجانب اليهودي بدايةً. لفهم اليهود المعاصرين وحقيقة تشبثهم بإسرائيل فإن على كل أحد أن يتذكر أن اليهود عاشوا هناك لما يقارب 3000 سنة كانت تحكمهم في معظمها قوى أجنبية تعمل على اضطهادهم. وكان يسيطر على اليهود في العهود التوراتية سلسلة من الإمبراطوريات, وأُهلِك ملكهم مرتين. ولما عاشوا في البلاد المسيحية في العصور الوسطى كانوا يتعرضون لأعمال العنف على الدوام.

أما في البلدان الإسلامية فقد لاقى اليهود معاملة أفضل بكثير كأقلية لها حقوقها, ولكنهم لم يكونوا متساويين مع المسلمين في المعاملة, إذ يحفل الأدب اليهودي الخاص بالقرون الوسطى بالتعبير عن الشعور بالإذلال بسبب نقص قوتهم في الأراضي الإسلامية. وحتى في ذلك الوقت, كان اليهود يعانون أحياناً من أعمال العنف.

ولكن أعمال العنف الشديدة جاءت بالطبع من أوروبا القرن العشرين متمثلة في الهولوكوست. فقد أنشأ اليهود دولة إسرائيل حسب اعتقادهم بأنهم سيعيشون أخيراً في أمنٍ وكرامة, وهي مشروع نجح جزئياً فقط؛ إذ يعيش اليهود الآن في استقلالٍ في بلادهم القديمة ويمتلكون جيشاً عسكرياً قوياً. ولكن يحيط بإسرائيل عشرات الملايين من المسلمين الذين يعارض أغلبيتهم وجودها, في حين يبلغ عدد اليهود 14 مليوناً فقط وما يقارب نصف هؤلاء يعيشون في إسرائيل.

وقد يقول البعض أن إنشاء إسرائيل جعل اليهود أكثر عرضة للخطر, فالخوف الآن ليس من أعمال العنف وإنما من التعرض للإبادة, وهذا يفسر سبب تعامل الإسرائيليين بقسوة مع خصومهم الفلسطينيين, فاليهود حساسون لكل فعلٍ استفزازي يهدد وجود إسرائيل بسبب تاريخهم الطويل في التعرض للتهديد. وسيظلون يعتبرون الفلسطينيين تهديداً طالما ارتكبوا أعمال عنف تجاه الإسرائيليين ورفضوا أن يعترفوا بشرعية إسرائيل, حتى وإن لم يمتلك الفلسطينيون جيشاً. فكل فتىً فلسطيني يرفع حجراً في وجه جندي يهودي سيعتبره اليهود, في ضوء تاريخهم الدامي, خطراً. وعلي أن أؤكد هنا أن الأمر المهم هو تصور اليهود للحقيقة, وليس بالضرورة أن يكون هذا التصور هو الحقيقة نفسها, وذلك لأن التصور هو الذي يحمل الناس على التصرف, بغض النظر عما تكونه الحقيقة.

وبالعودة إلى الجانب المسلم, نرى مثالاً مشابهاً إلى حدٍ بعيد. فقد شكلت التجربة القاسية للسيطرة الأجنبية الهوية الإسلامية في الوقت المعاصر. فمنذ 200 سنة كان العالم الإسلامي ضحية الاستعمار والإمبريالية الغربية, وفي النهاية حصلت الدول الإسلامية على استقلالها, ولكن قوة النفط جعلت الغرب يرتبط بعلاقاتٍ قوية مع الشرق الأوسط. وقد أدرك العالم الإسلامي أن ظهور إسرائيل كان جزءاً من محاولة الغرب المستمرة للسيطرة عليه.

وكما حصل مع اليهود, واصل المسلمون أعمال العنف لأنهم رأوا أنه الوسيلة الوحيدة للدفاع عن أنفسهم. وفي غياب القوة العسكرية, لجأ بعض المسلمين إلى "الإرهاب" كالطريق الوحيد نحو الاستقلال. هنا أيضاً تجعل التصورات من الصعب التفريق بين الأنواع المختلفة من التهديد, فنرى أن صانعي السلام الأميركيين الذين يسافرون إلى العراق يُقتَلون جنباً إلى جنب مع الجنود الأميركيين. ومرة أخرى, إنها التصورات التي تُعتبَر, وليس بالضرورة أن تكون هي الحقيقة.

ويبقى الحصول على اعتراف كلا الطرفين بتصورات الطرف الآخر, دون التعاطف معهم, ليس بالمهمة السهلة. فقد رفض بعض المسلمين الذين تحدثت إليهم فكرة أن اليهود أو الإسرائيليين يشعرون بالضعف, واعتقدوا أن أي اقتراحٍ كهذا يقصد به المناورة ومحاولةً للاستعطاف؛ ففي نهاية الأمر لدى إسرائيل جيش قوي, والصوت اليهودي مؤثر في كل مكانٍ في العالم. وعلى نفس المستوى, يشعر بعض اليهود بالإحباط لدى ذكر هذه المقارنة, فهم يرفضون أي مساواةٍ بين معاناة اليهود ومعاناة المسلمين,وذلك لأن العالم الإسلامي لم يتعرض أبداً للاضطهاد الذي تعرض له اليهود.

ما تجاهله كلا الفريقين هو المبدأ الهام, وهو التصورات. فكل فريقٍ يشعر بضعفه وإهانته ويبصر قوة الآخر واستعلائه, وهذا كل ما في الأمر. وفي النهاية تبقى هذه التصورات هي المحفز لكلٍ منهما لقتل الآخر. ومع هذا, لا يزال هناك أمل في الحوار على خلفية هذه التصورات. فقد عرضتُ الأفكار المطروحة هنا على المسلمين واليهود, وأُعجِب بعضهم بالمقارنة بين تاريخي المسلمين واليهود, وبخاصة المسلمين الشيعة الذين يزيد من شعورهم بالإهانة على يد الغرب الإهانة التي عانوها من غالبية المسلمين السنة طوال التاريخ. ومن هذه الناحية, يشتركون إلى حدٍ كبير مع اليهود.

ومن الجدير بالذكر أن من استجاب بشكلٍ إيجابي إلى أفكاري هم رجال الدين المسلمين. فمن خلال تجربتي في الحوار الديني في السنوات القليلة الماضية رأيت أن رجال الدين أفضل بكثير من السياسيين في كشف ما بداخلهم ومشاركة الانفعالات عند التحدث إلى أعدائهم, ولذلك من الأفضل أن يبحثوا هم في المخاوف وحالات القلق التي تدفع مجتمعاتهم إلى التصرف بعنف.

وما أراه هو أن الوقت قد حان ليُعطى رجال الدين دوراً محورياً في عملية السلام بين المسلمين واليهود. فقد ناقش السياسيون من كلا الطرفين لعدة عقود كيفية رسم الحدود, ولكنهم لم يصنعوا سلاماً حقيقياً. وكان رجال الدين يبقون خارج هذه المفاوضات بحجة أن الدين هو سبب المشكلة, وليس الحل. وطالما أن النزاع بين المسلمين واليهود مرتبط بالدين, فمن الصعب تصور حصول الاستقرار دون جهود رجال الدين. وقد يستطيع المسلمون واليهود الاهتمام بالمسائل العالقة بينهم كي تنشأ علاقة جديدة بين الطرفين.