رشاد أبوشاور

هاتفت صديقي عوني صادق :
غداً سأذهب وإيّاك لزيارة صديق !
من هو ؟
صديق لن يستقبلنا ، وسيبقى طيلة الوقت صامتاً ، بينما نحن نروي له بعض فصول ما جرى على مدى 22 عاماً ، هي فترة غيابه ...
سألني عوني بنفاد صبر :
يا أخي ما هذه الألغاز ؟

قلت له :
سنأخذ له باقة ورد ، فهو يحّب الورد ، والنظافة ، ألا تذكر كان مكتبه نظيفاً دائماً ، تنتشر في أرجائه نبتات دائماً خضراء ، وأحياناً مزهرة تعطّر جو المكان ...
وحتى لا أتسبب لعوني بمزيد من الإرهاق ، خّاصة وقد أجريت لعينه اليمنى عملية صعبة ، وهو ما زال في فترة النقاهة ، وبانتظار الجزء الثاني من العمليّة ، قلت له دفعة واحدة :
سنذهب لزيارة صديقنا حنّا مقبل ، في المقبرة المسيحيّة في ( أم الحيران ) المنطقة التي كانت خارج العاصمة الأردنيّة عمّان فصارت أحد أحيائها ...

بدهشة سألني :
وهل حنّا مدفون هنا في عمّان ؟!
معه حّق عوني ، فعندما اغتيل حنّا يوم 3 أيّار 1984 ، كان عوني مقيماً في ( الكويت ) ، وجثمان حنّا نقل من ( قبرص) إلى عمّان حيث وري الثرى يوم 5 أيّار ...

مبكّراً استيقظت كعادتي ، وبدأت أتأمّل أشجار الورد _ ورد بلدي بألوان كثيرة : أحمر ، أصفر ، أبيض ، وألوان محيّرة ، وكلّها تتضوّع عطراً طبيعيّا ، وتتفتّح برقّة ، وتكوّن مهرجاناً لونيّاً يتناغم مع أزهار رقيقة تنمو حولها بأناقة ...
استيقظت زوجتي وابنتي ( زينب) ، وجعلتا تجمعان أجمل وأينع وردات للصديق حنّا . زينب لا تعرف ( عمّها) حنّا ، لأنها ولدت بعد استشهاده ( غيلة وغدراً ) ، ولكنها منّي ، ومن أمها تعرّفت إليه ، ومن (كتاب حنّا) الذي أعددته أنا وسلام العزيزة ابنة حنّا .
توجّهت إلى ( الرابيّة ) واصطحبت عوني ، ومضينا إلى المقبرة .
ميّلنا إلى المكتب في المدخل ، وتناول عوني ورقة صغيرة فيها معلومات عن قبر حنّا استخرجها الموظّف من الكمبيوتر :
حنّا مقبل ، موقع 11، قسم 9 ، قبر 25 .

انحنى عوني على القبر ، وهمس لحنّا :
يمكن تكون ارتحت يا أبوثائر ...
ثمّ طوى جسده وقرفص لصق القبر ، قرب الرأس ، وأخذ يمسّد على الرخامة ، وهو يهمس بكلام ما لم أتبيّنه .
أشعل سيكارة ، وغرق في الصمت ، ثمّ لنخرج من جو الحزن الثقيل ، قلت له مذكّراً :
كان يحّب الورد ...

فككت الباقة ، ومددت يدي له بوردات منها فوضعها ببطء على الرخامة ، راسماً تكويناً جميلاً .
ما تبقّى من الباقة وضعته فوق الشاهدة ، قلت :
ليتشممها أطول مدّة ، ويتذكّر أننا لا ننساه
قرأت شعراً على قبر حنّا ، لم أهتد لقائله وإن خطر ببالي الشاعر اللبناني الشهيد موسى شعيب :
قتلوني يا عار بنادقهم
قتلوني وأنا خبز الفقراء اليومي
لم يدروا أن اسمي غابة أسماء
لم يدروا أن العشب الأخضر ينبت
من أضرحة الشهداء

وعلى القبر قرأت أيضاً :
حنّا مقبل ، ولد في بلدة ( الطيّبة) بتاريخ 4نوفمبر 1941 ، وشعار اتحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين الذي وضعه هو : بالدم نكتب لفلسطين ، وتذكيراً بدوره : اغتالته يد الغدر وهو يعمل على ترسيخ مفهوم الوحدة الوطنية ...
حنّا مقبل شهيد الموقف والكلمة الحرّة الصادقة ...
كلمات تذكّرنا بأيّام خلت ، نحّن لها ، وما زال بعضنا ينتمي لقيمها ، وفي مقدّمتها : الصداقة والوفاء ...

عندما اغتيل حنّا في قبرص كان أميناً عّاماً لاتحاد الصحفيين العرب ، وهو قبل ذلك الصحفي المحترف الذي تخلّى عن كّل امتيازاته في الصحافة العربيّة ، وعمل على بناء صحافة ثوريّة فلسطينيّة ، مسخّراً خبراته ، وطاقاته التي امتاز بها دائماً وبنكران ذات .
قبره تغطّيه شجرة زيتون كأنما هي من زيتون ( الطيّبة ) ، من زيتون كرم والدته التي لم يكن لها ولشقيقاته البنات غيره ...
ألا يجدر بالصحفيين الفلسطينيين أن يحتفوا بذكرى مؤسس صحيفة ( فتح ) ومجلّة ( فتح ) الأسبوعيّة ، والمؤسس الحقيقي ل( فلسطين الثورة ) ، وصاحب المؤسسة الصحفيّة ( القدس برّس ) و( الشرق برّس) التي خرّجت عشرات الأسماء الصحفيّة ؟!