لطالما بدا نظام ما بعد الطائف نظاماً مشوهاً. ذلك ان الولاء السياسي لمشروع الدولة كان مشروطاً، على امتداد الحقبة الماضية، بنوع من الخوة السياسية. والحق ان مشروع الدولة نفسه فيه الكثير مما يجب مناقشته وتحديد درجة اندراجه ضمن مشروع الدولة الجامعة، فضلاً عن التصورات والافكار التي حكمت هذا المشروع والتي يمكن ان يقال فيها الكثير. لكن سنوات الحقبة السورية ختمت على معادلة بالغة الوضوح، حيث استقر مشروع الرئيس الراحل رفيق الحريري قبل نهاية تلك الحقبة، كما لو انه الممثل الاخير لبنى الدولة الجامعة وبيروقراطيتها. لم يكن المشروع والطاقم في حد ذاته حصينين على النقد والاعتراض. لكن القاصي والداني بات يعرف ان المشاريع والخطط العامة، وبعضها لم يكن ذا فائدة وبعضها الآخر كان مجحفاً، كانت معقودة اللواء إلى طاقم الرئيس الحريري ومن يمثل في الحكم. فيما تمرست الطوائف الأخرى وقياداتها وممثلوها في جانب الاعتراض والتذمر. لم تجد تلك القوى سبباً يحدوها للتصرف والفعل والتصريح بوصفها تمثل مصلحة الدولة الجامعة. وكان النقاش غالباً يدار من جهتين، جهة الدولة التي يمثلها الحريري وطاقمه في الحكم، بوصفها صاحبة المشاريع الاقتصادية واكبر رب عمل في الاقتصاد اللبناني، وجهة الطوائف الأخرى المعترضة او الموالية على حد سواء، بوصفها توالي حين تنصفها الدولة على مستوى التقديمات، وتعترض حين تحجب عنها الدولة التقديمات التي تنتظرها. على هذا كانت لصندوق المهجرين ومجلس الجنوب وصناديق وزارة الصحة والعمل والأشغال العامة ادوار حيوية في تحديد حجم المعارضة السياسية لمشروع الدولة الذي كان ممثلا بالرئيس الحريري وطاقمه. والحق ان الرئيس الراحل انتهج سياسة تشبه إلى حد بعيد رشوة القوى السياسية الطوائفية لضمان ولائها. والحال، فإن سنوات الهيمنة السورية رست في النهاية على نوع من قسمة العمل بين القوى المؤثرة والفاعلة في الحياة السياسية اللبنانية، بحيث اصبحنا امام جهتين: جهة تحمل عبء النهوض بالاقتصاد وعرض الخطط وتقديمها، ولم تنجح في ذلك على اي حال، واسباب ذلك كثيرة ومتنوعة. وجهة اوكلت إلى نفسها مهمة الاعتراض الشعبوي والتذمر والدفاع عن مصالح الفئات الاجتماعية المتضررة من اي مشروع قد تطاولها خسائره. وفي هذه القسمة ما يجعل الوضع اللبناني كما لو انه يسير بخلاف المنطق وطبائع الامور من جهتين على الأقل:

الأولى تتصل اتصالاً وثيقاً بأحوال العصر الراهنة. إذ ليس ثمة من طرف سياسي او مهتم بالشأن العام في اي بلد من بلدان العالم اليوم، يحسب ان مهمته تقتصر فقط على التوزيع العادل لثروات المجتمع، فسؤال الإنتاج والنهوض الاقتصادي اصبح اليوم سؤالاً مطروحاً بحدة على القوى السياسية في المجتمعات كافة ومن دون اي تمييز. ولم يعد يستطيع حزب سياسي او قوة مؤثرة ان يدير ظهره لمستقبل الاقتصاد الوطني او يعتبر أن هذه المسألة لا تخصه من قريب او بعيد.

والثانية تتصل بطبيعة الوضع اللبناني. حيث لا يمكن ان نعتبر على اي وجه اردنا حمل هذا الاعتبار، ان الطوائف التي تنيط بنفسها مهمة الاعتراض والاتصال الوثيق بهموم الكتلة الشعبية هي جزء من معارضة عامة، حتى لو كانت تستلهم افكارها من ارشيف يسار الخمسينات. فالقوى السياسية المعترضة في لبنان هي قوى الحكم نفسه. وإذا لم تكن في الحكم في لحظة اعتراضها فهي في أحسن الاحوال تمثل اهل الحكم السابق. اي ان الاعتراضات والمعارضات كانت على الدوام بين اهل الحكم واهل الحكم السابق، والحكم المقبل. والحال، ليس ثمة منطق يتيح لرئيس الجمهورية، مثلاً، الاعتراض على سياسة حكومته، والاحتكام إلى الكتلة الشعبية. متناسياً مسؤولياته عن الحكم والحكومة ودوره في التخطيط والتنفيذ. والامر نفسه ينسحب، وإن بصورة مواربة على رئاسة المجلس النيابي ونواب الأمة جميعاً.

على هذه الخلفية التي تحدرت من سنوات الهيمنة السورية على لبنان، يمكن قراءة تظاهرة 10 ايار (مايو) التي جرت في بيروت. حيث يعرف القاصي والداني ان المتظاهرين اقوى شكيمة واصلب عوداً واشد تسليحاً من رجال الشرطة والجيش المولجين حفظ امنهم. ويعرف الجميع ايضاً ان هذه القوى في السياسة والاجتماع مرهوبة الجانب وقادرة على فرض مصالحها على الجميع. ويعرف اللبنانيون والعرب اليوم، ان المشاركين في جلسات الحوار، وهو هيئة غير دستورية وغير قانونية، هم افتك انياباً واصلب مخالب من نواب الأمة جميعاً. وان لا احد يستطيع مخالفة قرار يتخذ في جلسات الحوار بدعوى انه لم يقر في جلسة رسمية. رغم ذلك يعمد بعض اهل الحل والربط في البلد إلى التظاهر والدعوة للحشد في مواجهة بعضهم الآخر، مستظلين بشعارات تتصل بهموم الناس واوضاع الاقتصاد المتردية. كما لو ان مسؤوليتهم في هذا الأمر اقل من مسؤولية اهل الحكم المغلولي الأيدي والأرجل بقيود الطوائف نفسها.

والحال، وحيث ان كل طائفة في البلد تحتكر دوراً من ادوار الدولة العامة والجامعة، ويقع اهل الطوائف الأخرى في موقع المدافع عن حقوق الناس، فما الرأي لو تظاهر بعض الطوائف اليوم ضد احتكار طائفة بعينها تقرير حظوظ الحرب والسلام بين لبنان وجاريه المتعديين؟ وحيث ان من حق «حزب الله» ان يعترض ويتظاهر ضد الورقة الاصلاحية، فكيف يحق له ان يعترض، ويكاد يتظاهر، ضد طلب رئيس الحكومة، السيد فؤاد السنيورة، في قمة الخرطوم، ان تكون المقاومة لبنانية شاملة وتعود حقوقها إلى الشعب اللبناني برمته؟