جاء القرار الدولي الأخير بشأن لبنان، وفقاً للمشروع الذي سيصوت عليه مجلس الأمن، أقل حدة مما كان متوقعاً، لكنه شدد على التذكير بالأجندة التي ستبقى مطروحة بين لبنان وسورية، وعلى نحو غير مباشر بينه وبين ايران. مع ذلك، احتجت دمشق على ما سمته «تدويلاً» لمسألة ثنائية ويفترض ان تحل «ثنائياً». طبعاً لا مجلس الأمن ولا أي قوة في العالم تستطيع ان ترغم بلداً على اقامة علاقات ديبلوماسية مع بلد مجاور له أو بعيد عنه، حتى لو كان البلد الآخر راغباً جداً في تلك العلاقات. المفارقة الوحيدة تكمن في ان هذا النمط من العلاقات يصادف أنه النمط المعتمد والمألوف في العالم بين الدول المعترفة بسيادة بعضها بعضاً.

في نهاية المطاف سيتبادل لبنان وسورية البعثات الديبلوماسية بمعزل عن رفض «التدويل» أو «تجاهل» القناة الثنائية، فلماذا يغذى وقود الجدل الدائر بمزيد من النكايات والترهات، أو حتى بمزيد من الشكوك بأن رفض فتح سفارتين تعبير عن عدم اعتراف بسيادة لبنان واستقلاله. وطالما استمر السجال على هذا المنوال سيظل ينظر الى المطلب اللبناني - الذي أقرّ بالاجماع في «الحوار الوطني» - كأنه سعي الى «انتصار» يريد الجانب الآخر منعه واحباطه، حتى لو لم يحقق له ذلك أي مكسب.

المرفوض سورياً هو ان تأتي السياسات الخاصة بلبنان من الجانب اللبناني. فهذه بدعة جديدة لم تتمكن بعد من احراز شرعيتها. لكن هذا ما توصل اليه الحوار، وهو أقل من الحد الأدنى، بل أدنى بكثير من المؤمل انجازه عبر هذا الحوار. وإذا استجابت دمشق لفتح السفارتين، فلا يعقل ان ترمي مطلب ترسيم الحدود، وكذلك المساهمة في ضبط السلاح الفلسطيني في لبنان. وهي بذلك ستنجر الى جدول أعمال لم تؤيده اصلاً، ولا شاركت في وضعه. لذلك فهذا مسار لا يناسبها، وتفضل وضع حد له منذ البداية. لذلك، ايضاً، لا تبدو زيارة رئيس الوزراء اللبناني مرشحة للعرقلة والتأخير.

في المقابل، ما يبدو ممكناً ومسهلاً هو العمل على اسقاط حكومة فؤاد السنيورة. أو هذا على الأقل ما أرادت تظاهرة 10 أيار (مايو) أن تدشنه، تفعيلاً لطريقة سابقة جرّبت مرتين ونجحت في اسقاط حكومتي عمر كرامي. لكن الظروف مختلفة، برلمانياً وسياسياً وشعبياً، ثم أن اسلوب «الحرتقة» في أيام السلم يكون مقبولاً في المنافسة السياسية أما في أيام القلق والحذر التي يعيشها لبنان الآن، فإن هذا الاسلوب يتحول الى تخريب منهجي. والغريب أن «الحلفاء» الذين أطلقوا التظاهرة الأخيرة يتكلمون لغتين، واحدة بأفواه «العونيين» تريد اسقاط الحكومة والمجازفة بالذهاب الى الفوضى، وأخرى بأفواه «حزب الله» تكتفي باضعاف الحكومة وشلّها من داخلها، ولذلك كان متوقعاً جداً أن يصار الى هذا التجييش والتحريض ضد الحكومة بعد زيارة السنيورة للولايات المتحدة ومخاطبته مجلس الأمن وحملته في الخارج لاستجلاب الدعم لخطته الاقتصادية.

هذا هو الوضع الذي سيلتقي المتحاورون غداً في ظله. فليس الحوار وحده الذي بلغ حائطاً مسدوداً في ملفي تغيير رئيس الجمهورية ومصير «سلاح المقاومة»، بل ان قسماً من المتحاورين بات يعتبر أن الحكومة بلغت أيضاً حائطاً مسدوداً. الجديد الذي سيواجهه هذا الحوار هو أنه في حد ذاته قد لا يظل كافياً كعنصر تخفيف للاحتقان، لأن أي حوار يقاس بنتائجه لا بصور المصافحات والابتسامات المتبادلة. ولعل جلسة غد اختبار لما يفترض أن تكون زيارة رئيس المجلس النيابي لدمشق قد حققت من «ايجابيات»، خصوصاً أن الزائر هو عرّاب الحوار ومديره.

مرة أخرى، إذا لم يتصدَّ الحوار لاستحقاقات البلد في مرحلته المقبلة، كتأسيس جديد للنظام والدولة، فإنه سيبقى مجرد طاحونة كلام لا تلوي على شيء. فالتوافق على الخيارات للمستقبل يجعل من الاستحقاق الرئاسي خطوة اجرائية، كما يجعل من مسألة المقاومة وسلاحها خياراً وطنياً جامعاً بدل أن يكون موضع خلاف وانقسام.