من أجمل ما قاله أبو الطيب المتنبي عن النفس البشرية:

من أطاق التماس شيء غلاباً واغتصـاباً لم يلتـمسه سؤالا

مر ببالي هذا القول عندما كنت أتابع تظاهرة يوم الأربعاء الفائت في العاصمة اللبنانية بيروت، وهي المظاهرة التي وصفها منظموها ومسيِّروها بـ«المطلبية»، بينما رماها مناوئوها بأنها نظمت بتحفيز ودعم من دمشق.

بصراحة، كاتب هذه السطور من المؤمنين، أولاً، بحق التظاهر طالما احترم المتظاهرون القانون والنظام العام، وثانياً، بأن المطلب الأساس للتظاهرة محق جداً.

فمع احترامي الشديد لرئيس الحكومة اللبنانية الأستاذ فؤاد السنيورة وفريقه الاقتصادي، أنا لست من المتحمسين كثيراً لعجائب اقتصاد السوق ولا نظريات الخصخصة، بل اعتقد أن بلداً مثل لبنان يرزح تحت مديونية تربو على 40 مليار دولار، وتعيش غالبية سكانه على مرتبات الدولة وضماناتها وتعويضاتها التقاعدية، وتندرج معظم وظائفه الحكومية (أي القطاع العام) تحت عنوان «البطالة المقنعة»، إنما هو بلد عاجز عن تحقيق قفزة إنقاذية بقواه الذاتية نحو مفهوم «مجتمع المستثمرين» Investors" Society .

قد تكون في لبنان مجموعات من المضاربين أو الاحتكاريين لكن لم ينشأ بعد فيه مجتمع مستثمرين. وبالتالي، فإن الخصخصة الكاسحة، كما حصل في ركام الاتحاد السوفياتي السابق، ستفضي على المدى القصير ـ على الأقل ـ إلى زلزال اجتماعي سيتفاقم وتتعقد تداعياته في ظل الفسيفساء الطائفية وتفاوت مستوى الدخل، طائفياً ومناطقياً في البلاد، ومن ثم يزج النظريات الأكاديمية المجرّدة للنجاعة والجدوى في نفق يؤدي إلى مزيد من الاستغلال الطائفي المغلف بقشرة مطلبية.

أمر آخر أود الإشارة إليه، وأنا المراقب المحدود المعرفة بعلم الاقتصاد ... على عكس الرئيس السنيورة وفريقه من الخبراء الاقتصاديين، أذكر أنني تعلمت في الجامعة بحصة الاقتصاد أن هناك سلعاً وخدمات «مرنة»elastic لا تجد الحكومات صعوبة في زيادة الضرائب عليها أو رفع الدعم عنها، كالمجوهرات واللوحات الفنية والأزياء الفاخرة والسجائر وغيرها من الكماليات. وفي المقابل ثمة سلع وخدمات «غير مرنة» non elastic يتعذّر التلاعب فيها لأنها ضرورية لحياة الفرد والمجتمع، كالخبز والسكر ومعاشات المتقاعدين والضمان الوظيفي.

وهكذا، عندما ثارت ثائرة نقابات العمال والموظفين ضد بعض بنود الخطة الإصلاحية الحكومية التي تسرّبت بالتواتر إلى اللبنانيين، حرص حتى عدد من كبار الساسة المؤيدين للحكومة على إعلان معارضتهم فكرة «التقاعد الوظيفي» وإعادة النظر في أوضاع المتقاعدين.

ومع أن الحكومة، على لسان رئيسها، ردّت على المخاوف والمطالبات بالتأكيد على أن ما تسرّب لا يعني وجود سياسة حكومية بهذا المعنى بل هي مجرد أفكار سحبت من التداول، فإن كثيرين ـ وأنا منهم ـ كان لهم موقف سلبي أصلاً من مجرد تفكير الحكومة بسياسات كهذه تمس «شبكة أمان» المتقاعدين والموظفين.

هذه خلفية مهمة وضروريٌ التطرق إليها، قبل الانتقال إلى الجانب الآخر من مناقشة تظاهرة «10 ايار/ مايو». أما هذا الجانب الآخر فيتعلّق بالاستغلال السياسي للشأن المطلبي، أي ... بالعربي الفصيح «كلمة حق يقصد بها باطل».

الحكومة اللبنانية تراجعت عن «أفكارها» بمجرد التلويح بالتحرك الشعبي، وإعلان بعض كبار داعميها السياسيين معارضتهم عددا من بنود خطتها الاقتصادية. ولا شك أن في هذا التراجع انتصاراً مستحقاً يسجل للنقابات. ولكن زمام المبادرة، كما كان يتخوف البعض وكما ثبت لاحقاً من تسيير التظاهرة والشعارات التي رفعت فيها، خرج من أيدي النقابات العمالية إلى أيدي قوى سياسية لها خطط وارتباطات سياسية معلنة. ولئن كان بعض هذه القوى ما زال ممثلاً في الحكومة التي يختار بين الفينة والفينة إحراجها بقدرته التعطيلية والابتزازية، فإن البعض الآخر يتحرك علانية لإسقاط الحكومة بأي ثمن. والمأزق الذي تجد النقابات نفسها فيه الآن هو أن تجييرها مطالبها إلى القوى السياسية «الحليفة» أنهى ما تبقى لها من مصداقية مطلبية، بعدما برهنت أنها مطيّة ذليلة لهذه القوى.

أمر ثان لا بد من إثارته، هو التساؤل عن البدائل الاقتصادية التي يرى معارضو الحكومة الحالية أن عليها تجربتها...

فالقاصي والداني يعرفان أن لبنان ليس دولة صناعية ولا دولة زراعية تكفل لها مواردها الصناعية والزراعية اكتفاءً ذاتياً، بل ان أكبر مصادر للدخل في البلد هي السياحة والخدمات والاستثمارات الخارجية وتحويلات العاملين في الخارج. وعليه، هل يساعد افتعال التأزم السياسي والأمني على ترويج السياحة وازدهار الخدمات واجتذاب الاستثمارات الخارجية؟

وهل السجال المستمر ـ بل والمتصاعد ـ في جو خانق من سوء النيات والكراهية المتبادلة بين الطوائف والمذاهب والزعامات عامل مطمئن للبنانيين المقيمين والمغتربين إلى مستقبل البلد ووحدته الوطنية المنشودة؟

وهل الجدل الدائر، بشكل عبثي أحياناً وكيدي أحياناً أخرى، حول موضوع سلاح المقاومة الذي غدا عملياً سلاح حزب واحد، أو السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، سيبقي أي فرصة لتأمين الدعم الاقتصادي الخارجي المطلوب بصورة ملحة إذا كان للبنان الخروج من نفق أزمته الاقتصادية والمعيشية الضاغطة؟

أليس صحيحاً أن تفجيراً واحداً، أو اغتيالاً واحداً، أو إطلاق صاروخ «كاتيوشا» مجهول الهوية أكثر من كاف لتدمير أي موسم اصطياف موعود؟

بعد كل هذا، هل ظلت هناك بقية من خجل للتظاهر ضد الأزمة المعيشية؟ وهل ظلت هناك حاجة، باستثناء إخلاء المسؤولية، إلى مواصلة الحوار الوطني؟