بمناقشة بسيطة نعود أحيانا لرسم الواقع السوري على شاكلة زمن "الولاة"، أو نكتب الثقافة الاجتماعية بصراع زعامات الأحياء وفورة الثأر التي تعود في بعض صورها لمجازر "تيمور لنك". وحتى المغالاة في التعبير عن القلق الاجتماعي تأخذ صيغ "القدر" الذي يستمر دون توقف مكررا نفسه على مساحة الحياة. لكن هذا القدر يتخطى المعقول فنفكر ولو بإضافة بريق من ابتداعنا لأن سير التاريخ هو "التراث النفسي"، أو حتى رغبتنا في إعطاء قناعاتنا مزيدا من التأكيد عبر التفسير الخاص الذي نحشره في مسيرة السياسة أو الثقافة أو حتى داخل السيرة الذاتية للأشخاص.

رسم الواقع السوري على شاكلة زمن "الولاة" العثمانيين أو المماليك يوصلنا حتما إلى الفرص الضائعة، وعندما تصبح مساحة التفكير على شاكلة صراع القبيلة والأفخاذ، ونرسم السياسة بنمط زعيم العشيرة، فإننا نؤكد على الرغبة في استمرار الصورة النمطية لشرق غارق في أحلامه، وفي الأوهام التي يعايشها ويسعى لجعلها واقعا وحلما في نفس الوقت.

ربما يكون الواقع السوري يحمل سمات ما قبل السياسة، حتى في صور المعارضة التي تتبلور داخل ثقافة الآخر، فيظهر لنا "المحور الثالث" وقبل أن يتنفس يبدأ الصراع مجددا في بيانات الإنترنيت. لكن حالة ما قبل السياسة لا يمكن أن تصبح رغبة أو حتى غريزة لتأكيد قناعاتنا المسبقة بأننا محكومون بالظروف. لأن التعامل اليوم يسمح للبعض بالتصرف على غرار زمن "الولاة" أما أشكال المبادرة فهي معنية بالمواجهة مهما كانت طبيعتها لرسم الصورة التي حملناها لسورية منذ "المؤتمر السوري" ومرورا بالصراع من أجل الاستقلال وانتهاء باللحظة الراهنة.

وعندما تكون البداية مأزومة فربما نسرع لما قبل السياسة، أو حتى لاستثارة كل رغبات القبائل، لكن القلق السوري يبقى رهان أساسي للتفكير بالغد، وبأن المسألة ليست "فرصا ضائعة" بل خيارات محدودة نضعها أمام أعيننا لنجعل الوهم صورة نهائية للتفكير ... فهل من الضروري رسم الوهم في كل لحظة؟!!

والمسألة أيضا ليست مساحة من البراءة، فما حصل على امتداد التاريخ السوري المعاصر يحمل الكثير من الأخطاء والتجارب الفاشلة والفساد، لكنه في النهاية يدخل ضمن الحياة العامة التي لم تحسم بعد أسئلتها الأساسية منذ عصر النهضة، ولم تستطع أيضا تشكيل الخيارات من داخل "الثقافة" الاجتماعية. وفي النهاية فإن "ظاهرة" ما قبل السياسة ليست قدرا بل خيار يراه البعض أساسيا لإقناع نفسه بأن سورية هي تكرار تاريخي لزمن الولاة منذ القرن الرابع الهجري.