يمر العرب اليوم بأصعب وأخطر المراحل في تاريخهم الحديث. فقد عاد اليهم المستعمر باحتلاله المباشر لارضهم، مستغلا حالة الضعف المَرَضية المستشرية في جسدهم. الا انه جاء هذه المرة ساعيا الى اعادة رسم الخارطة الجغرافية السياسية، وفرض سايكس بيكو جديدة تجزئ الدول القطرية التي فرضها في القرن الماضي الى دويلات هزيلة، مبنية على أساس الانتماءات الدينية والطائفية والعرقية للمجتمع العربي، مستهدفا الهوية والوجود العربيين.

فبعد احتلال العراق وتدميره ونهب خيراته ومعالم تراثه وازاحة حكومته الوطنية والشرعية، وفرض حكومة عملاء اتت بهم الولايات المتحدة الاميركية فوق دباباتها، تقوم هذه الاخيرة منذ فترة بحملة سياسية ودبلوماسية تستهدف سوريا والنظام الحاكم فيها شبيهة بالتي مهدت لغزو العراق. ولسنا بصدد الدفاع عن النظام السوري الذي عانى العرب الكثير من جراء سياساته في العقود الاربعة الماضية.

إذ منذ استخدم الضباط الذين شكلوا لاحقا قيادة هذا النظام، قوة السلاح للانقلاب على القيادة الشرعية والتاريخية للبعث عام 1966 متسببين بالانشقاق الذي دام حتى يومنا هذا، منذ ذلك الوقت، خرق النظام السوري الكثير من المحرمات القومية، ما ساهم بشكل كبير في ايصال العرب الى الوضع الذي هم فيه اليوم. فقمع الشعب السوري والغى دوره، وضرب المقاومة الفلسطينية في مراحل مختلفة، وانحرف عن دوره المفترض في لبنان، وساند ايران ونظامها الشعوبي في حربها ضد العراق في الثمانينات، وشارك في معسكر حفر الباطن الى جانب القوات الاميركية في ضرب قوة العراق العسكرية وتدمير بنيته الصناعية والمدنية التحتية عام 91، وتعامل مع العملية السياسية التي فرضها الاحتلال الاميركي في العراق ومع رموزها، رغم وقوفه ضد هذا الغزو، والقائمة طويلة.

ولكن رغم تجارب الماضي المريرة هذه، وفي ظروف الهجمة الاميركية-الصهيونية الشرسة والحرب المعلنة التي تتعرض لها الامة العربية، لا بد لنا من التركيز على الحاضر والمستقبل، ولا بد من ادراك ان ما يعد للمرحلة القادمة يهدف الى الحاق المزيد من الاذى بهذه الامة. وان استفاقة الولايات المتحدة في هذه المرحلة بالتحديد على السياسات السورية في لبنان، رغم انها مستمرة منذ ثلاثة عقود بمباركتها، ليست حرصا منها على لبنان ولا حرصا منها على الديمقراطية والرخاء في سوريا، بل لان لديها اهدافا ومخططات، صهيونية-اميركية، لا تنفصل عن مخططها الخبيث في العراق.

فالحملة التي تتعرض لها حكومة سوريا اليوم، هي تآمر على سوريا وعلى الامة العربية، والتغيير الذي تعمل له الولايات المتحدة فيها هو بهدف المجيء بحكم عميل على شاكلة الحكم الذي نصبته في العراق، تتوقع منه ان ينفذ كل اوامرها دون نقاش او تردد خاصة في مجال ما تتوهم الولايات المتحدة انه سيساهم في اخماد نار ثورة التحرير الوطنية في العراق. حكم يعمل على تقسيم سوريا وتفتيتها، بالتوازي مع مخطط تقسيم العراق، بحيث تصبح المنطقة برمتها عبارة عن كيانات طائفية وعرقية هزيلة متناحرة، يهيمن عليها الكيان الصهيوني الذي سيجد عندئذ مكانه "الطبيعي" ضمن هذه التركيبة المصطنعة.

اما مطالبة الادارة الاميركية المتطرفة بـ"الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان" لسوريا، ففيه استخفاف كبير بالعالم من حولها عموما وبالعرب خصوصا. فهذه المبادئ السامية التي شوهت أبشع تشويه من قبل "الدولة العظمى" الوحيدة في العالم، بات الالتزام بها غير متوفر داخل الولايات المتحدة نفسها التي أصبحت تذكر بدولة "الأخ الأكبر" التي تخيلها (او تنبأ بها) أورويل في روايته الشهيرة. و"النموذج" الذي بنته في العراق يدل على مدى احتقار هذه الدولة الخارجة عن القانون لتلك المبادئ، ومدى خرقها لها، خاصة حينما تكون للتصدير.

فالنموذج الاميركي لـ"الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان" في العراق قام على العنصرية والعدوان وخرق القانون الدولي والاحتلال العسكري لقطر عربي عريق، وعلى التدمير الشامل لمدن باكملها، والقتل الجماعي للبشر، وممارسة ابشع انواع التعذيب الجسدي والنفسي، وقصف المدنيين باحدث الاسلحة واكثرها فتكا وتدميرا، ورشوة وسائل الاعلام، وتضليل الرأي العام، واثارة الفتن الطائفية والعرقية. وقام هذا النموذج ايضا على استهداف الهوية العربية للعراق والوجود العربي فيه، وعلى تحضير الارضية السياسية والقانونية والنفسية لتقسيمه على اسس طائفية وعرقية، وفرض عملاء طائفيين، عنصريين، وشعوبيين، موكل اليهم تنفيذ هذه الاهداف. كما قام هذا النموذج على النهب المنظم والمخطط له لخيرات العراق وثرواته وكنوزه التاريخية والحضارية، وعلى تدمير كل دعائم الحضارة والدولة الحديثة فيه.. وهذا النموذج نفسه هو المرشح للتصدير لسوريا اليوم.

ان المخطط الاميركي في استهداف الانتماء العربي للعراق وهويته واستقلاله ووحدته، بالتحالف مع حكام ايران الطامعين فيه والحاقدين على العروبة، مرشح للتكرار والنسخ -ربما مع اختلاف الحلفاء وحسب الظروف- في اقطار عديدة من الوطن العربي. وسوريا مستهدفة اليوم بعد العراق كما هو لبنان وكذلك السودان والجزيرة العربية وغيرهم. ومن الخطأ الفادح لاي طرف الاعتقاد ان بامكانه استغلال تلاق آني في المصلحة مع الولايات المتحدة لتجيير موقفها لصالحه، وبالحدود التي يرغب فيها. فهذه الدولة لا تقيم وزنا لعملاء أو لأصدقاء أو حتى لحلفاء، بل تهمها مصلحتها ومصلحة حليفتها الوحيدة "اسرائيل" فقط، وهي لن تتوقف عند حدود. وفي الاستقواء بها ومساعدتها على اطلاق يدها في شؤون العرب، خطر داهم على استقلال الأمة ومستقبل اجيالها، وتلك جريمة لا تغتفر. فالتغيير والاصلاح الحقيقيان في بلادنا، اي اللذان يصبان في مصلحة الوطن والشعب، لا يمكن ان يأتيا من الاجنبي ايا كان، فكيف اذا كان هذا الاجنبي دولة قررت معاداة الامة العربية واغتصاب ارضها وحقوقها وثرواتها وابادة شعبها.

ان الواجب القومي يحتم، في ظل الحملة الاميركية الصهيونية التي تتعرض لها الامة العربية اليوم، تجاوز الماضي -دون ان يعني ذلك نسيانه- والتضامن مع سوريا كائن من يكون النظام الحاكم فيها، ورفض اي تدخل أجنبي في شؤونها. فالشعب السوري وحده يقرر التغيير، وهو وحده يقرر البديل. كما يحتم بذل كل الجهود لدعم سوريا والمساهمة في كشف اهداف المخطط الاميركي وخطورة ابعاده ومراميه، التي لا تطالها هي فحسب بل تطال لبنان ايضا واستقراره على المدى البعيد، والعراق ومقاومته الباسلة التي رفعت رأس الأمة عاليا، وفلسطين وكفاحها التحرري، كما تطال الأمة العربية بأسرها.

ويحتم هذا الواجب القومي والوطني ذاته، كما نرى، على نظام الحكم في سوريا، اجراء عملية نقد ذاتي واعادة نظر شاملة لتجارب الماضي واخطائه وخطاياه. فعلى الصعيد الداخلي تلح ضرورة اصدار عفو عام عن المحكومين لاسباب سياسية والافراج عن جميع المعتقلين السياسيين في السجون السورية، والانفتاح على المعارضة الوطنية، والشروع ببناء الديمقراطية والتعددية السياسية التي ترص الصفوف وتحصن الوطن. وبشأن العلاقات السورية اللبنانية ترتب التحديات الخطيرة، والضرورة التاريخية والقومية ايضا، على نظام الحكم في سوريا، التحلي بالجرأة والشفافية في معالجة ازمته في لبنان ومحاسبة كل المسؤولين عن التجاوزات والجرائم التي ارتكبتها اجهزته هناك، استكمالا لخطوة اولى اتخذت في هذا الاتجاه. أما على الصعيد العربي فتحتم المسؤولية القومية انتهاج سياسة قومية مبدئية حقيقية، ودعم المقاومة البطلة في العراق بكل الوسائل، والوقوف بجرأة ووضوح في وجه الاطماع الاميركية والايرانية فيه. فقد كان مخيبا للآمال اصرار الرئيس السوري في كلمة له مؤخرا -وفي مؤتمر عربي تضامني مع سوريا- على صواب الموقف الرسمي السوري من الحرب العراقية-الايرانية لصالح ايران في الثمانينات، ثم بعد ابداء قلقه -محقا- على استهداف عروبة العراق، تجاهله الكامل للدور الخبيث والخطير لحليفته ايران في هذه المؤامرة.

ان بداية الخروج من الوضع العربي المتردي هو الالتزام شعبيا ورسميا بالحد الادنى من التضامن العربي في وجه التهديد الأجنبي، والارتقاء بسرعة الى مستوى الدفاع المشترك في معركة المصير الواحد التي تخوضها الامة العربية دفاعا عن وجودها وحريتها وكرامتها. اذ شكلت بعض المواقف الرسمية الشاذة -بل والشعبية أيضا احيانا- في المرحلة الماضية سوابق خطيرة في السياسة العربية قد يرتكز عليها ويحتذي بها مستقبلا من يريد الاصطفاف الى جانب العدوان المتوقع ضد سوريا غدا وضد غيرها بعد غد، إذا لم يصر الى اعلان ميثاق شرف عربي يلتزم به الجميع ويدان وينبذ من يشذ عن ثوابته.