كنت اعتقد بأن النظام السوري استفاد من الدرس القاسي، الذي تمثل بورطة الشوط الأول من التحقيق باغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري،وانه صار يدرك بأن حبل الكذب والتزوير في هذه القضية قصير جدا،وهو قد يلتف على عنقه ،لاسيما بعد أن وجهت له تهمة التضليل .لقد خيل لي أن النظام الذي حكمنا كل هذه السنوات،بيد من حديد،وبقدر كبير من الخداع واللعب على المشاعر الوطنية والغرائز البدائية،سوف لن يعدم الحيلة والشطارة مرة أخرى،لكي يخرج من هذه الأزمة بأخف الأضرار.لم يخطر ببالي بأن النظام الذي تمكن من حكم بلد راسخ في التاريخ والجغرافية مثل سوريا،وكان لاعبا أساسيا خلال فترة الحرب الباردة،غير قادر على تحضير خطة دفاع عن النفس،صلبة ومتكاملة.إن إدعاء البراءة لايكفي القضاء لتبرئة المتهم،بل المطلوب من المتهم نفسه هو أن يقدم الأدلة على براءته.قد يكون النظام بريئا من عملية الاغتيال،لكن عليه أن يسوق الدليل على ذلك،وليس مهمة أي طرف آخر،أن ينوب عنه في هذه العملية.

تراوح موقف النظام السوري من التحقيق بين عدم التعاون والتضليل والتشويش الاعلامي،لكن النفس الطويل الذي اتسم به عمل المحققين الدوليين، من فيتزجيرالد مرورا بميليس وصولا الى براميرتس،فضح لعبة الابتزاز السورية.ومن المفروض أن النظام فهم جيداً،بأن التعاون هو في صالحه.فبعد أن فشل في تقديم الدليل على براءته،عليه أن يفسح في المجال أمام الآلية التي وضعتها الأمم المتحدة.لو إنه تصرف من موقع مسؤوليته عن الأمن في لبنان لحظة وقوع الجريمة،لما فتح أي مجال للشك في انه يقف وراءها،ولما ترك الباب مفتوحا أمام تحقيق دولي.إن النظام السوري يجاهد حتى هذه اللحظة للتفلت،وهو لايكف عن طرح السؤال،لماذا توجه التهمة لي؟ وكأنه لايريد أن يعترف بأن الأمن كان من مسؤوليته في منطقة الحادث!إن استقالته من مهمة الأمن وقت وقوع الانفجار، في ذلك المربع الصغير،يكفي لوحده كقرينة اتهام. لا أدري الى حد الآن ماهو سبب حاجة نظام يدعي البراءة، الى شهود زور من نوع هسام هسام،ومدافعين يجلبون الضرر، من طراز رئيس تحرير صحيفة "الديار" شارل ايوب، والوزيرين سليمان فرنجية ووئام وهاب.إن وقوف هذا الفريق الى جانب النظام السوري،لايشكل سببا اضافيا لاتهامه فقط،بل لتثبيت التهمة عليه.والسؤال الذي يطرح نفسه هو،هل يعدم النظام السوري حقا المدافعين الذين يتمتعون بمصداقية؟. إن العالم مليء برجال القانون النزيهين، والشخصيات السياسية المستعدة للدفاع عن الحق،فلماذا لم يتطوع أحد حتى الآن ليقول، إن سوريا مظلومة.؟وحتى لواعتبرنا الكون كله يقف ضد النظام السوري،فإن محاميًا مثل رمزي كلارك وصل به الانحراف حد الدفاع عن صدام حسين،أو مفكرًا مثل نعوم تشومسكي الذي زار بيروت مؤخراََ،ولم يجد حرجا في الدفاع عن حزب الله وسلاحه.لماذا يمتنعان عن الخوض في هذه القضية ،وقول كلمة واحدة بصددها؟ماهي الاسباب التي تدفع بهاتين الشخصيتين للنأي بنفسيهما عن السجال حول براءة سوريا من عدمها،ويتنطع لذلك شخص ألماني مجهول يدعى"يورغن كاين كولبل"؟.

لقد تطوع "كولبل" لتأليف كتاب(الأدلة المغيبة في ملف التحقيق في اغتيال الحريري) يحاجج فيه حول براءة النظام السوري من دم الحريري. قد يكن "كولبل" باحثا عبقريا في علم الجنايات،كما تم التعريف به مؤخرا، خلال محاضرته في "مكتبة الأسد" في دمشق، التي استضافته لتقديم كتابه،ومن حقه أن يجتهد للبحث عن طريق يثبت براءة النظام السوري،لكن القرائن التي قدمها تبدو ناقصة،عدا عن ان السياق الذي جاء فيه عمله، يضعه في خانة التوظيف المسبق.وفي مايخص الشق الأول،فقد أخفق "كولبل" خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده في بيروت،في تقديم قرائن مقنعة تدعم الأطروحه الأساسية التي قام عليها الكتاب،وهي "الأدلة المخفية"،ولم يقدم أكثر من احتمالات(ثمانية)، رأى إن التحقيق الدولي اهملها،واهمها هو تحييد أجهزة التشويش في موكب الحريري،التي نسب تصنيعها الى شركة اسرائيلية. وأكد "كولبل" إن صاحب المعلومة عن تحييد الأجهزة ،هو أحد مالكي الشركة المنتجة ويدعي "بن كييني"،وهو ضابط اسرائيلي.إذا صدقت هذه الأطروحة فإنها تحل لغز مصرع الحريري،وتوقف التحقيق عند هذا الحد.وطالما إن هذا الضابط الاسرائيلي هو صاحب الشركة التي صنعت الاجهزة،وقامت بتعطيلها قبل الاغتيال بساعة،فإنه من دون شك يعرف لمصلحة من قامت الشركة بالعملية.والسؤال هو،لماذا يتطوع هذا الضابط الاسرائيلي لتبرئة سوريا،اذا كان الهدف من الجريمة"هو زعزعة الاستقرار في سوريا ولبنان"،كما جاء في واحدة من مداخلات "كولبل"؟ أما في ما يتعلق بالشق الثاني من التوظيف المسبق،فإن كل ما أحاط بزيارة "كولبل" إلى دمشق يبعدها عن الموضوعية.

من رئيس تحرير صحيفة"الديار" صاحبة السمعة العطرة شارل أيوب، إلى بلال تركماني صاحب مجلة"أبيض أسود"، نجل وزير الدفاع السوري والطرف الأول في الدعوة،إلى المحامي الذي دور الارتباط مع القضاء العسكري حسام الدين حبش،وحتى مرافقه الألماني الفلسطيني سعيد دودين،الذي يقدم نفسه على انه مدير"مؤسسة عالم واحد للبحث والاعلام".وأعتقد أن دودين شريك اساسي في هذه القضية،لكن دوره يحتاج الى وقفة خاصة لايتسع لها المجال هنا،ذلك إن بصماته واضحة جدا،وإلا لما تدخل في دمشق وبيروت على نحو سياسي مباشر.فهو من دمشق دعا للهجوم على السفارات والمصالح الغربية في المنطقة،ومن بيروت وجه انذارا، واعطى "مهلة لغاية 28 من أيار/مايو الجاري من اجل الافراج عن الضباط الاربعة،وإلا فإننا سنضطر لمحاصرة كل السفارات اللبنانية في اوروبا". وقال، ان القرار بالهجوم اتخذته"المنظمة العربية لمناهضة الجريمة المنظمة في اوروبا" ومؤسسة "عالم واحد". إن الأمر لايتعلق بمدى قوة الحجج التي يسوقها "كولبل في كتابه"،بقدر ما يلفت الانتباه إلى خلل عميق يتصل بالموقف الأخلاقي من التاريخ الدموي للنظام السوري.إن سجله الأسود لايسمح لصاحب ضمير أن يتطوع للدفاع عنه،إذ يكفي وقوف شخصيات تفتقد للحد الأدنى من النزاهة الى جانبه،حتى تصبح قضية الدفاع عنه أو التعاطف معه محل شك،بل تهمة.وبعيدا عن الضجيج الاعلامي العابر،فإن انصار قضايا الحرية الفعليين في الغرب، لاينطلي عليهم تمثيل النظام لدور الضحية،المستهدف من الهجمية الاميركية،هم يعرفون جيدا بنيته وتكوينه وماضيه البعيد والقريب،لن يدافعوا عنه،أو يقفوا إلى جانبه حتى لو تأكدت براءته من دم الحريري،لأنه ارتكب من الجرائم،عبر تاريخه المديد، مايتجاوز الحريري بكثير.

ماهو حجم جريمة الحريري أمام مجازر حماة وتدمر وحلب،وقصف المدن بالطيران والمدفعية،وقتل المعارضين في السجون واحتجاز مئات آلاف الابرياء؟ إن ثلاثة اجيال سورية متوالية دخلت السجون وتشردت،ودمر مستقبلها،لقد نهبت سوريا على مدى حكم حافظ أسد،حتى إن حكام هذه الحقبة يعدون من بين اثرياء العالم العربي.ولايقل عن ذلك حجم الخسارة الثقافية والفكرية والبشرية والاجتماعية، التي لحقت بهذا البلد من جراء حكم عصابة فاسدة مرتشية عديمة الوطنية. علينا أن نعترف بأن اختصار جرائم النظام باغتيال الحريري، هو تخفيف من الأثقال الملقاة على ظهره.وهنا يكمن تقصير المعارضة السورية الفادح،والذي لايغتفر.إن إهمالها لهذا الجانب لايمكن أن يمر تحت أي مبرر.كان عليها أن تبادر، وتقدم الى المجتمع الدولي ملف جرائم النظام بحق السوريين طيلة حكم آل الأسد.إن القانون الخاص بمحكمة الجزاء الدولية،وفق "اتفاقية روما"،يعطيها الحق في مقاضاة النظام على جرائم الحرب التي ارتكبها.فلماذا هي صامتة، ولاتقوم بتحريك هذه القضية،بعيدا عن التحقيق الدولي الخاص بجريمة اغتيال الحريري.؟ قد يساعد التحقيق في جريمة اغتيال الحريري على اضعاف النظام السوري،لكن سيكون من الخطأ علينا الرهان عليه للخلاص من الاستبداد. إن حكاية "كولبل" في نهاية المطاف،تشبه قصة السائر في ليل مظلم وهو يرتعد خوفا،إنه مضطر للحديث مع نفسه،لكي يقنعها بأنه ليس بخائف.قد يستطيع "كولبل" اداء دور طارد التهمة عن النظام السوري،لكن النظام،ربما افشل مسعاه،ورفض ان يصدق ذلك.