تعرفت على ميشيل كيلو في دمشق أواسط الثمانينات ، يومها كان خارجا للتو من سجن مديد ومرير ، وكنت مديرا لتحرير مجلة الهدف الفلسطينية ، دعوته للكتابة الأسبوعية المنتظمة في المجلة ، فكان لي ما أردت ، وكان لحضوره السياسي ـ الفكري في الهدف ، شأن متميز.
متحدث آسر ، يعرّج بك من تفاصيل المشهد السياسي بيومياته ووقائعه التفصيلية ، إلى فضاءات التجريد والتنظير ، خبرته الواسعة بالناس والأفكار والتجارب تضفي مذاقا خاصا على رؤاه وتحليلاته ، وأزعم أن ميشيل - فك الله أسره - يتحدث بأفضل مما يكتب ، أقولها وفي ظني أنها قد تزعج صديقنا العزيز.

في الفترة ذاتها ، تعرفت على الروائي السوري هاني الراهب - رحمه الله - وكان يدرس في جامعة دمشق ، ولديه مع إدارة الجامعة والأجهزة التي تقف خلفها الكثير من المشكلات ، مع أن الرجل لم يكن متورطا في ثنايا السياسة ودهاليز النضال كصديقه ميشيل ، ولقد نجحت محاولتي في ضم الراهب إلى أسرة كتاب المجلة التي كانت تضم في أزمنتها الذهبية نخبة متميزة من المثقفين والكتاب والمفكرين.

يومها ، أزعج وجود الراهب وكيلو في الهدف ، كثيرين في دمشق ، وعبر قنوات خلفية تبلغنا العتب على توفير حاضنة لهؤلاء الذين أريد لهم على ما يبدو أن يتركوا على قارعة البطالة والحصار والتجويع ، بل واتضح بعد ذلك ، أنه يراد لهم الهجرة إلى العواصم الجاذبة للعمالة والكفاءات كما حصل مع المرحوم الراهب الذي قضى ردحا من الوقت في جامعة الكويت.

ظللت أتابع ما أمكن لي متابعته من كتابات كيلو وأنشطته والتطورات التي طرأت على مواقفه وتوجهاته ، وكانت كتاباته في النهار البيروتية تحديدا ، نافذة مهمة للتعرف على مجريات المشهد السوري بتعقيداته وتأزماته المختلفة ، وأحسب أن الرجل كان إشكاليا بكل ما للكلمة من معنى ، فهو من منظور النظام ، معارض قديم ـ جديد ـ متجدد ، ومن منظور بعض المعارضة الأقصوية فإن ميشيل كيلو اندرج في سياقات سياسة الاحتواء التي اتبعها النظام للثقافة والمثقفين ، للفكر والمفكرين ، وأشهد بأنه كان من الصعب عليّ تصديق الرواية الثانية. تجددت صلتي به عبر شاشة التلفزيون الأردني ، وحل ضيفا على عدد من حلقات برنامج قضايا وأحداث ، إلى أن التقيته في عمّان مؤخرا ، على هامش مؤتمر يبحث في قضايا الإصلاح ، وكان كدأبه ، متقد الفكر ، حاضر البديهة ، لمّاحا ، وقادرا على النفاذ إلى ما هو جوهري وأساسي وسط ركام الخطابات وأوراق العمل والتعليقات.

لم يرتكب ميشيل كيلو جريمة ليقاد بموجبها إلى السجن ذات ليل بهيم ، فالرجل وطني سوري حتى النخاع ، وهو أبعد ما يكون عن العنف ومشتقاته ، وما من ذنب اقترفه سوى ذاك الذي أوصل عارف دليلة إلى السجن ، أي أنه رجل يحمل مشروعا إصلاحيا واقعيا ، ويريد لبلده وشعبه مستقبلا أفضل ، فهل هذا هو المصير والمآل اللذان سينتهي إليهما أصحاب الرأي والأقلام الجريئة والمسؤولية في قلب العروبة النابض؟.. وهل بهذه الطريقة ستواجه سوريا أطواق العزلة والحصار ، وفيض القرارات الدولية المتلاحقة ، ما صدر منها وما ينتظر؟ الحرية لميشيل كيلو وجميع سجناء الرأي والضمير في سوريا والعالم العربي.