تمخض جبل المثقفين في سوريا ولبنان فولد فأراً سمّوه اعلان بيروت - دمشق، أو دمشق - بيروت في صيغة توفيقية تلفيقية ذات طابع شعاري لا يختلف عن الشعارات التي رفعها النظامان في البلدين على مدار سنوات البؤس، كوحدة المسار والمصير وسواهما.

بداية لا بد من التأكيد على حقيقة مفصلية في إطار النقاش الدائم حول العلاقات السورية - اللبنانية، وهي أن هذه العلاقات ذات طبيعة انسيابية، يساهم الكثير من المعطيات والعناصر في إكسابها هذه الصفة، بل وأكثر من ذلك، يجعل منها علاقات ضرورة بحكم الأوضاع الجغرافية، والحقائق التاريخية والبشرية، والواقع الاقتصادي في البلدين.

كما أن كل محاولات تنظيم هذه العلاقات في أطر قانونية أو صيغ سياسية، لم تؤدِّ سوى إلى تشويه هذه العلاقات وإفقادها طابعها الانسيابي وطبيعتها العفوية التي تميزت بها طوال سنوات، وتشهد على ذلك تجربة المجلس الأعلى والاتفاقات الاقتصادية التي سبقت ذلك.

لا أحد يستطيع أن ينكر، "أو يحق له" ان ينكر، حقيقة أن الدولة كمؤسسة باتت هي الجهاز المتفق على شرعيته كأداة لتنظيم شؤون الشعب الذي يقع في إطار الحيز الجغرافي الذي تحكمه، وبالتالي فهي الجهة المعترف بها لتصريف علاقات شعبها مع الشعوب الأخرى عبر آليات ومؤسسات، على رأسها البعثات الديبلوماسية، ما يحتم ضرورة إقامة سفارتين في كل من سوريا ولبنان. ولا نعرف لماذا انكار هذا الحق على الجانب اللبناني، كما أنه لا مندوحة من رسم الحدود بين البلدين، ليس لتحديد المسؤوليات الأمنية على الطرفين، ولكن أقله ليتمكن كل من الجانبين من القيام بواجبه تجاه شعبه.

هذه حقائق لا يجوز نكرانها، ولكن هل يجوز اختزال العلاقات بين البلدين بهذه الوسائل؟ بالقطع لا. كما لا يجوز اختزال هذه العلاقات أيضاً بمبادرات سياسية واقتصادية وثقافية، ذلك أن تدخلات رجالات هذه الحقول الثلاثة هي التي ساهمت في إرباك إنسيابية العلاقة بين البلدين وتساهم في حرفها عن مجراها الطبيعي. أليس السياسيون هم مَن تسببوا في إراقة دماء الشعبين؟ أليس الاقتصاديون هم مَن أثروا على حركة التبادل الطبيعي؟ أليس المثقفون هم الذين كانوا عماد الحملات الاعلامية التي شوهت حتى الشخصية الوطنية في البلدين؟

إذاً لا يحق لهؤلاء جميعاً أن يدعوا غيرتهم على العلاقات بين الشعبين وهم الذين أوصلوها إلى حيث وصلت، وحتى عندما ادعوا انهم راغبون في إصلاح هذه العلاقة لم يكونوا سوى ملفقين ومنافقين، ومؤذين للمشاعر الجمعية للشعبين. وإلا ماذا يعني أن يكرروا في إعلانهم الصيغة الممجوجة والمهينة بادعائهم الحرص على أن لا تتحول "سوريا ولبنان" إلى مقر وممر للتآمر على بعضهما؟ فهل يحتاج الشعبان اللبناني والسوري اللذان دفعا مئات الآلاف من أرواح أبنائهما دفاعا عن وطنيتهما وعروبتهما وإنسانيتهما إلى من يذكرهما بواجبهما؟ ثم من أين استقى المثقفون هذه القوالب؟ وإرضاء لمن يتم إدراجها في سياق الإعلان؟

ثم ألا يعطي المثقفون لأنفسهم أحجاماً أكبر من أحجامهم الحقيقية عندما يعلنون تمسكهم بالحق في استعادة الاراضي السورية واللبنانية المحتلة؟ وحتى إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس أيضاً! ألا يتجنون بذلك على الواقع الجيوسياسي الصلب الذي يحكم المنطقة؟ أم أن هذا البند من قبيل "حتى لا يزايدَنّ أحد علينا ويتهمنا بالعمالة"؟ ولكن ألا يقلل التماهي مع بعض الجهات من صدقية الاعلان وشفافيته؟

بالرغم من محاولة موقعي الاعلان اخراجه بمظهر الوثيقة الشاملة والوافية والكافية لحلحلة جميع العقد والأزمات التي تواجهها العلاقات بين البلدين، إلا أن القراءة الدقيقة تكشف عن صفقة غير بريئة تم تمريرها عبر فقرات الاعلان، بحيث نعطيكم وتعطونا، نراضيكم وتراضونا، وفي الوقت نفسه نكون قد عملنا ما علينا وكفى المؤمنين القتال.

لا تحتاج العلاقات بين الشعبين السوري واللبناني إلى إعلان يدرك الجميع أنه لن يقدم أو يؤخر، كما أنه ليس هناك من داع للحرج والتوفيق والتلفيق، فعلاقات الشعبين لا تحتاج إلى أفكار لتفعيلها، بل لأجساد تتحرك ميدانياً على الأرض لتكسر حواجز العزلة التي فرضها غباء الساسة في البلدين.

بالطبع لا أحد يستطيع المزايدة على مثقفي البلدين، فبين موقعي الإعلان السوريين العشرات ممن عانوا السجن وتحملوا الاضطهاد في سبيل قضايا سامية، كما أن الحقل الثقافي في البلدين دفع دما غاليا ثمناً للحرية والاستقلال، كالشهيدين سمير قصير وجبران تويني، غير أن آمالنا الكبيرة لهؤلاء المثقفين، وطمعنا في سعة صدورهم تدفعنا لأن نطلب منهم الافضل والأمثل على الدوام.