قبيل العودة الى لبنان منذ سنوات، ذهبت الى البحث عن شقة في بيروت. وأعطيت نصائح كثيرة. وقد اجتذبني منها أن أحد مديري البنوك السابقين، وهو أيضا أستاذ جامعي، دخل عالم العقار ولديه شقق ممتازة للبيع. وذهبت إليه دون سواه. وبدا مظهره مريحاً: أناقة مديري البنوك وطلاقة الأساتذة الجامعيين. وعندما عرّفته بنفسي ومهنتي، قال وهو يضرب كفاً بكف: «آه. ليتك تذهب الى ماناغوا».

خيل إليّ أنني اختبلت أو أصبت بالصمم. وقلت للأستاذ المدير: «هل تقصد ماناغوا، عاصمة نيكاراغوا؟»، قال: «يا عيني على الذكاء. يا عيني على سعة المعرفة». تلمست نفسي لأتأكد من أنني في دنيا الواقع، وأنني لم اخطئ العنوان، وأنني على بعد عشرة آلاف كيلومتر من بلاد الساندانيستا. ولما تأكدت من المادة ألف والمادة باء والمادة ياء من عقل الداعي لكم بطول العمر، سألت المدير الأستاذ عن العلاقة بين العقار وبين ماناغوا. وعاد يمتدح ألمعيتي وذكائي. وقال لي: «يخرب بيتك ما أذكاك. يقصف عمرك شو شاطر».

انتظرت، فأكمل: «لقد ذهبت أخيرا الى ماناغوا لكي أزور أقرباء لي. فماذا تراني أكتشف؟ اسمع. لقد دمر ماناغوا الزلزال فسرق الديكتاتور السابق سوموزا جميع أموال المساعدة العام 1972. ثم جاء ثوار الساندانيستا. وبدلاً من أن يعمروا العاصمة خرجوا يقاتلون في الغابات. مساطيل. وعندما ذهبت الى هناك تطلعت في هذا الخراب والخلاء وقلت في نفسي: يا صبي. حك دماغك شوي. الى ماذا تحتاج هذه المدينة؟ لم يكن الجواب صعباً. قلت في نفسي إنها في حاجة الى مقاول ومشاريع سكنية وشقق صغيرة. والربح هنا وفير. اليد العاملة ببلاش. البرطيل (الرشوة) ببلاش. المهندس ببلاش. المواد الأولية ببلاش. فقلت في نفسي: يا صبي، شو بعدك قاعد تعمل ببيروت».

أصغيت وأنا غير متأكد بعد من أنني على مشارف «كرم الزيتون» في بيروت. وفي النهاية قلت للمدير الأستاذ: «قبل أن تسافر جنابك الى ماناغوا، هل عندك شقة للبيع؟»، وضرب جبينه بقبضته متحسراً وقال «ليتك جئت أمس، لقد بعت أمس آخر شقة لديّ. ثلاث غرف ومنتفعاتها ومطلة على الجبل. لكن تبين لي أن العقار في لبنان لا يربح أكثر من 60%، فقلت في نفسي، يا صبي، لشو العذاب. ما إلك إلا ماناغوا. شو رأيك بشقة في ماناغوا. في نص قلب المدينة». قلت له: أنا معك. لكن لا تنسَ أن تكون الشقة قرب بيت سوموزا.