في ما يبدو أنه رد على قرارات تصعيدية اتخذتها الادارة الاميركية أخيرا بحق دمشق وسوريين يعيشون في الولايات المتحدة، أخبرتنا منذ أيام مصادر ديبلوماسية تعمل في دمشق أن إدارة الهجرة والجوازات السورية ترفض تجديد الإقامة للعديد من الاميركيين من الذين يعملون في «المدرسة الاميركية» بدمشق,

فحين راجع بعض هؤلاء إدارة الهجرة والجوازات من أجل تجديد بطاقات الإقامة لم يوفقوا في الحصول على رد على طلباتهم، كذلك حينما تدخلت السفارة الاميركية لدى الخارجية السورية فإنها لم تلق التجاوب المطلوب، ولايجاد حل للمشكلة عمل الاميركيون على طلب التوسط لدى الخارجية السورية من خلال بعض سفارات الدول الصديقة لدمشق غير أن جهود هؤلاء «الأصدقاء» أيضا لم تفلح.

هنا، لا بد من التذكير أن الخارجية السورية كانت قد حددت اتصالات رئيس البعثة الديبلوماسية الاميركية في دمشق بإدارة المراسم في الوزارة ما يعني عدم تمكن رئيس البعثة الحالي ستيفن شيس من اللقاء بأي مسؤول في الوزارة سواء كان وليد المعلم وزير الخارجية أو أحد معاونيه, كذلك عملت الخارجية على إعادة تذكير البعثات الديبلوماسية الغربية (الولايات المتحدة وبريطانيا والمانيا خصوصا في دمشق بضرورة ألا تتجاوز تحركاتهم مسافة أربعـــين كيلومترا متر وعندما ينوون القيام بتحركات معينة يجب عليهم إبلاغ الوزارة,

طبعا كان خلفية ذلك حسب ما فهمنا أن بعض رؤساء هذه البعثات العاملة في سورية باتوا يقومون بنشاطات تعدت حدود وجغرافية دمشق حينما قام أحدهم بجولة الى احدى المحافظات السورية الداخلية والتقى بناشطين سوريين، وهذا أمر يغضب السلطات السورية كثيرا طالما عبرت أكثر من مرة عن حساسيتها إزاء ما من شأنه التدخل في شؤونها الداخلية، خصوصا وهي التي تشعر بوطأة الضغوط الخارجية، وهي التي باتت أيضا متيقظة أكثر من أي وقت مضى لنشاطات تقوم بها جهات سورية معارضة تعيش وتنشط في الخارج، معارضة لم تعد تخفي أهدافها بإسقاط النظام في دمشق.

كذلك، ثمة من يرى أن هذا التشدد السوري يأتي كرد على التشدد الاميركي إزاء تحركات عماد مصطفى، والسفير السوري لدى واشنطن، إذ تفرض عليه الادارة الاميركية جغرافية محددة لتحركاته ومستوى محدودا لاتصالاته الرسمية مع مسؤولين اميركيين، وأيضا لا تخل الخطوة السورية من رد غير مباشر على جملة من القرارات التصعيدية التي اتخدتها الادارة الاميركية إزاء دمشق في الآونة الأخيرة، مثل تجديد العمل ببعض مواد «قانون محاسبة سورية واستعادة سيادة لبنان»، الى القرار التنفيذي الذي أتخذه الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش بتجميد أصول وودائع كل المشتبه بهم بالتورط بجريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري ، رغم أن التحقيق في الجريمة لم ينته بعد، ما يعني اعتماد واشنطن على تقارير سابقة عن الجريمة وبخاصة تقارير المحقق السابق ديتليف ميليس الذي أشار الى احتمال تورط مسؤولين سوريين وهذا أمر أزعج دمشق كثيرا,

و ثمة من يرى أن سبب هذه الردود السورية المتشددة بحق البعثة الديبلوماسية الاميركية ومواطنين اميركيين يعيشون على اراضيها يعود الى أن الولايات المتحدة اتخذت أخيرا اجراءات ضد سوريين يعيشون في الولايات المتحدة كحرمان بعض الطلبة من تقديم مواد امتحانية أو تجميد ودائعهم في المصارف، رغم أن بعضهم يعيش منذ أعوام طوال في الولايات المتحدة ومنهم من ولد هناك.

أيضا لم تخل العلاقة السورية الاميركية من تصعيد عكسه أخيرا التقرير الاميركي السنوي عن الإرهاب الذي اتهم سورية بمواصلة دعم وتسليح و تمويل تنظيمات صنفتها واشنطن على أنها إرهابية مثل «حزب الله» اللبناني ومنظمة «حماس» الفلسطينية وحركة الجهاد، إذ تحتفط دمشق بعلاقات طيبة مع هذه التنظيمات.

في عموم الأحوال وإذا ما دققنا في هذه المسيرة التصاعدية من الشد والجذب بين البلدين، سنجد أنها بدأت باكرا وتزامنت مع الاحتلال الاميركي للعراق، وتكرست مع صدور القرار 1559 الذي طالب دمشق بسحب قواتها من لبنان ووصلت هذه المسيرة ذروتها فيما بعد حين فكر بعض أركان الإدارة الاميركية بل ربما خططوا لإسقاط النظام السوري.

خلال ذلك، نقصد خلال ذروة الضغوط الاميركية، كنا نستطيع أن نلحظ بين مئات من التصريحات والمواقف السورية دعوات، وإن بصوت خافت، الى الحوار مع واشنطن، كذلك لم تخل الساحة الاعلامية الاميركية من دعوات مشابهة وإن بدت متقطعة وقليلة التأثير، بدوره دعا الرئيس السوري من خلال وسائل إعلام اميركية واشنطن أكثر من مرة الى ذلك، غير أن ذلك فهم منه أن “النظام ضعيف” وأنه يحاول كما الغريق أن يتعلق “بقشة” نجاة للهروب من مآزق واستحقاقات كبيرة .

واليوم وبعد مضي أكثر من ثلاثة أعوام على دخول العلاقة في نفق طويل من الأزمة، وبعد أن ثبت أنه لا يمكن لسورية أن تتجاهل المتغيرات الاقليمية التي نشأت في المنطقة منذ الاحتلال الاميركي للعراق الى المتغيرات في لبنان، إضافة الى ما يجري من تطورات في العلاقة الايرانية الاميركية، سواء انتهت بأزمة أم بحوار وتفاهم، كذلك وبعد أن ثبت للولايات المتحدة أنه ورغم الضعف كله الذي تظهر عليه سورية نتيجة تلك المتغيرات الإقليمية، لا بد عليها أن تعترف أن دمشق ما زالت موجودة وحاضرة وفاعلة في الملفات هذه الإقليمية الشائكة كلها، سواء في العراق من خلال علاقاتها وامتداداتها مع بعض الحلفاء سواء من كان منهم في الحكومة أم في المعارضة ، وفي الملف اللبناني، إذ ما زال حلفاؤها يشكلون الرقم الأصعب في أي عملية تحول سياسي ومن دونهم لا يمكن الانتقال الى أي أفاق جديدة، كذلك ما زالت سورية قوية ومؤثرة في الملف الفلسطيني من خلال علاقتها التحالفية مع «حماس» الحاكمة في رام الله، وقبل ذلك ما زالت دمشق تحتفظ بعلاقة قوية وتحالفية مع إيران اللاعب الاقليمي الأكبر في المنطقة، وبعلاقات معقولة مع تركيا، والسعودية ومصر,.

ورغم ذلك، فإن هذا لا يعني أبدا أن دمشق بخير، فسورية ورغم نقاط القوة هذه ما زالت تعيش ظروفا صعبة نتيجة محاولات عزلها اميركيا عن محيطها الاقليمي وعن الاتحاد الاوروبي.

وعليه، وأمام حال الانسداد المتبادلة التي تعيشها دمشق وواشنطن إقليميا، أي مع الإخفاقات التي يعيشها الطرفان هنا وهناك، إضافة الى ما تكابده العلاقة الثنائية من تأزم وتوتر، أمام ذلك كله، تتوفر فرصة للطرفين للجلوس حول طاولة مستديرة للتباحث في هذه الملفات كلها، ليس من منطلق الإعجاب المتبادل، لأن ذلك لم يكن يوما ولن يتحقق، بل من منطلق الاعتراف بالمصالح المتبادلة لهما في منطقة تعج بالخلافات وبؤر التوتر الكامنة والقابلة للتفجر بأي لحظة, إن ذلك من شأنه أن يوفر شيئا من مخارج الحلول لأزمات تبدو أنها صارت مستعصية على الحل.