ربما لم نكن نحتاج أن تصل العلاقات السورية - اللبنانية الى ما وصلت إليه كي يقتنع الجميع، وخاصة المثقفين، بأن لا مفر من تدخلهم وبأن الاستمرار في تغييب أصواتهم أو الاكتفاء، في أحسن الأحوال، بالانفعالات وردود الفعل الآنية، هو مساهمة، عن حسن نية أو سوئها، في إيقاع المزيد من الخسارة والضرر.

في أوقات المحن والأزمات وفي لحظات التحول العاصفة وربطاً مع ما أفضت إليه السياسة من خراب، ودمار ومن ثم عجز عن التغيير والتصحيح يغدو من المفسر والمفهوم التطلع إلى دور إنقاذي للمثقفين اللبنانيين والسوريين، ربما كنوع من الإقرار بوظيفتهم الخاصة في الرد على ما استجد من تطورات، وفي إعادة بناء وعي نقدي وأفكار جديدة يفترض أنهم أقدر المعنيين ببنائها، وهو ما كثفته من حيث الجوهر الرؤية التي حملت عنوان " إعلان بيروت - دمشق"، وشكلت إجابة جماعية وإن متأخرة عن سؤال حول موقف المثقفين ودورهم اليوم أو ما يمكن أن يفعلوه أمام التردي المتسارع في العلاقات السورية - اللبنانية والفشل البيّن للمشاريع السياسية في وقف هذا التدهور أو الإمساك بزمام المبادرة لبدء رحلة عد عكسي نحو التجاوز والتقدم.

وبرغم أن المثقفين في كلا البلدين لا يشكلون كتلة متجانسة موحدة الأهداف والاهتمامات، بل هم جماعة متنوعة تخترقها المصالح والصراعات الاجتماعية، إلا أن ثمة عاملا مشتركا يجمعهم بصفتهم عموماً أشد الناس التصاقاً بالمعرفة، وأقربهم إلى تحكيم العقل والضمير، ولنقل أكثرهم استعداداً للتعبير عن هموم البشر وحاجاتهم وتطلعاتهم، ما وضع على عاتقهم في مواجهة حالنا الراهنة بمختلف تداعياتها السلبية، سياسياً واجتماعياً، مهمة المبادرة إلى تأسيس وعي ملح ومطلوب حول مسائل إشكالية لم تستطع السياسة التأسيس لها أو فرضتها بصورة قاصرة ومشوهة.

صحيح، أنه ليس ثمة سور صيني بين الحقلين السياسي والثقافي وبين وظيفة كل منهما، وصحيح أن أجيالاً من المثقفين ويا للأسف عرفت تاريخاً طويلاً سيطرت فيه العوامل والأهداف السياسية على مسارات حياتهم وإنتاجهم المعرفي، وخاصة ذلك الدور المدمر الذي لعبته السلطات السياسية، ترغيباً وتهديداً، لإخضاع المثقفين واحتوائهم أو تهميشهم وتغييبهم. لكن الصحيح أيضاً أن الحقل الثقافي يختلف عن الحقل السياسي، فالاخير فعل مباشر متغير حسب الحال والأحوال تبعاً لحركة المصالح والحسابات الضيقة ويرتهن في تنوع مواقفه وتبدلها إلى توازن القوى وما تقرره في كل لحظة من اللحظات التاريخية، بخلاف الفعل الثقافي الذي يتميز بثباته النسبي وبارتباطه الأعمق بمنظومة القيم الإنسانية العامة بما يعني أنه لا يمكن فهم دور المثقفين ووظيفتهم الحقيقية إلا ضمن أصول التأسيس الراسخ لمنظومة معرفية وقيمية وأخلاقية تسعى أولاً وأخيراً الى الإعلاء من شأن البشر وحقوقهم ضد كل أشكال الظلم والقهر والتمييز، وتشدد بدون كلل أو تهاون على أن الأسمى والأنبل في دنيانا هو الكائن الإنساني والعلاقات المتكافئة، وليست الأفكار والمواقف السياسية بحد ذاتها أياً كانت الشرعية التي تستند اليها.

بديهي أن السلطة أي سلطة تحتاج لتثبيت ركائزها إلى عملية إنتاج فكرية داعمة وتالياً إلى مثقف يعمم لها إيديولوجيتها لتعضيد النظام الذي تقوده وضمان تأييد الناس لها وقبولهم بها، وليس من المبالغة في شيء لو قلنا إن الأنظمة السياسية التي حكمت طوال العقود الماضية نجحت في استنبات فئات شتى من المثقفين الموالين لها، تبدأ بأولئك الذين آثروا الصمت والتزموا الحياد والسلبية تجاه مآسي مجتمعهم ومعاناة ناسهم، يليهم من قدموا، طوعاً أو كرهاً، بعض أشكال الدعم والمساندة للحكام واكتفوا من الغنيمة بالإياب، وكان أسوأهم من اندمجوا في عالم السلطة ومغانمها وصارت مهمتهم الرئيسة تبرير سياسات الحاكم وتسويغ ممارساته الاستبدادية والدفاع عن بطشه وظلمه، فغاب دور المثقف النقدي وتصدرت قائمة "المبدعين" وجوه أتقنت الترويج لثقافة الوضع القائم وأسسه السيادية، بل كانوا أداة ناجعة لمحاربة قلة قليلة من أبناء جلدتهم بقوا أمناء للهم العام وقيم الحرية وحقوق البشر وتطلعاتهم.

لكن سيطرة السياسة على الثقافة لم تنجب مثقفي السلطان فقط، فثمة مثقفون لم يكونوا أحسن حالاً وقد داروا في فلك الأحزاب المعارضة دون أن يميزوا أنفسهم كحملة مشروع خاص يتطلع، بالاستقلال عن الأفعال والأهداف السياسية، إلى مساعدة المجتمع على التحرر والتطور، فرضوا من حيث المبدأ إخضاع وظيفتهم الثقافية والمعرفية للغرض السياسي وان من موقع آخر، واندمجوا بالتنظيمات التي انتموا إليها وحولوا أنفسهم ثلة من المحازبين أو الأتباع أو لنقل ما يشبه الأبواق تدافع عن سياسات أحزابهم وبرامجها، أو ترتهن لرؤية إيديولوجية بما فيها من ثوابت معرفية وتحصينات فكرية والتزامات مقدسة أو شبه مقدسة بصور وحلول جاهزة، لنقف أمام واقعة مزمنة نجح فيها "المناضل السياسي" أو "المفكر الإيديولوجي" في إلغاء دور المثقف الحر وأثمرت النتائج إجهاض الثقافة النقدية وإضاعة فرصة ثمينة لنمو الفعل المعرفي باستقلالية نسبية عن الأفكار السياسية المتصارعة، ما أدى إلى مزيد من تراجع مكانة المعرفة والثقافة عموماً، من غاية في حد ذاتها إلى وسيلة انتقائية، يسعى المثقف إلى اكتساب ما يفيد منها فقط لدعم مواقف حزبه وتبريرها.

في مجتمعاتنا نجحت السياسة تاريخياً في تسخير النتاج الثقافي بصورة رئيسة في مسألتين، تعلقت الأولى بالوطن والقومية، وبالأخص القضية الفلسطينية وموضوع الوحدة العربية، وارتهنت الثانية بالبعد الاجتماعي والتطلع نحو مجتمع العدالة والمساواة والقضاء على الاستغلال، لكن اليوم تبددت هذه "الصور المغرية" وتكشف زيف التفرد بالشعارات الوطنية والاجتماعية أمام ما نشهده من تفاقم أزماتنا وأمراضنا، وظهر لكل ذي عين أن الدفاع عن المشروع الديموقراطي هو أشبه بخيار استراتيجي لا غنى عنه لمواجهة تردي الأوضاع ومطامع الطامعين ولتدشين مرحلة مختلفة ترنو نحو بناء حياة جديدة وعلاقات جديدة.

لقد لعب غياب الديموقراطية والحريات دوراً نوعياً في انحسار دور المثقف وتراجعه، وتمكن الاستبداد من إلحاق المعرفة بالسلطة وكم أفواه المفكرين المخلصين، وبعبارة أخرى نجح أهل الحكم في خنق الثقافة وتدجينها وتطويعها لتصبح مجرد صدى أو أداة تبرير ما هو قائم وتسويغه، وقد أكمل الدائرة ضعف مقاومة المثقفين أو تقصيرهم في نصرة الديموقراطية أو اختزالها في وعي بعضهم إلى حدود ما يعطيه السلطان وربما تأويل ما هو قائم من هوامش ضيقة على أنها الديموقراطية المطلوبة.

وفي حدود هذه النقطة تجدر الإشارة إلى إن غالبية المثقفين أحجموا لفترات طويلة ويا للاسف ولأسباب متنوعة عن ممارسة نقد حازم ضد الاستبداد وانعدام الحريات وانتهاكات حقوق الإنسان، ولم يظهروا قدراً كافياً من التضحية والشجاعة أمام ما تعرضوا له من ضغوط سياسية واقتصادية، للاعتزاز بالحياة الديموقراطية وحرية التفكير والإبداع والتمسك بمعاييرها أو للدفاع عن التكافؤ والعدالة والمساواة بين البشر والأمم ضد مختلف أشكال التميز القومي أو الطائفي أو المذهبي، فحكموا على أنفسهم بدور سلبي كان أحد أسوأ وجوهه أن يشار إليهم بالبنان بأنهم خانوا الأمانة أو على الأقل تنكروا لهموم أهلهم وناسهم وآمال مجتمعهم.

في الماضي غير البعيد، عندما كان المجتمع ينوء تحت وطأة التخلف والجهل واستبداد السلطنة العثمانية، كان المفكرون والمثقفون اللبنانيون والسوريون أول من بادر للرد على هذه الوقائع، فتقدموا بجرأة للعب دورهم في إيقاظ المجتمع من سباته الطويل وقدموا لقاء ذلك التضحيات الجسام، واليوم يمكن القول إن انحسار السياسة وفشل برامجها في إخراجنا مما نحن فيه وفي معالجة أزماتنا المزمنة، عقدا الأمل على دور راهن للمثقفين في نقد الواقع المريض والمهترىء، والتقدم بشجاعة لمشاركة الجماهير المغلوبة على أمرها، همومها ومعاناتها، وإعلان الانحياز الواضح لقيم الحضارة الإنسانية ولحقوق البشر وحرياتهم، بما في ذلك الاجتهاد والعمل بلا كلل على رسم وتعميم الصورة الصحية الديموقراطية المفترض بناؤها بين بلدين جارين لا غنى لأحدهما عن الآخر!!