لقد انحدرت شعبية بوش خلال استطلاع أجري مؤخراً للرأي العام الأميركي إلى 29 نقطة, وهذا صراحة ما لا أستطيع فهمه وقبوله. فهل يعقل أن تكون نتائج الاستطلاع المذكور دقيقة ويمكن الاعتداد بها؟ أعني هل لا تزال هناك نسبة 29 في المئة من الأميركيين, على تأييدها للرئيس بوش؟! وفي اعتقادي الشخصي أنه في وسع بوش إعادة تشكيل مجلس وزرائه كيفما ووقتما شاء, دون أن يحدث ذلك أثراً يذكر على استعادته لنسبة تأييده وشعبيته في أوساط الأميركيين. والمعروف أن الأميركيين شديدو البطء ولا يستعجلون إصدار حكمهم على الرؤساء عادة, لاسيما في أوقات الحروب. لكن فيما أرى, فما أكثر الأميركيين الذين تبددت ثقتهم في نزاهة وكفاءة هذه الإدارة خلال الأشهر القليلة الماضية!

ومما أستطيع أن أجزم به وأقطع من خلاله ظلال الشك, أنه ما من شيء ذهب بثقة الأميركيين في بوش وإدارته أدراج الرياح, أكثر من تقديمه للسياسة والآيديولوجيا, على المصالح القومية الأميركية. أقول هذا الآن, وقد قلته مراراً وتكراراً من قبل. وإنني لأعلم علمي بنفسي, كم سئم الأميركيون هذا وملّوه. وبالنسبة لي فإن أكثر ما هو ملغز ومحير في أمر هذه الإدارة هو: طالما أنك عملت وبذلت من الجهد كل هذه السنوات من أجل الوصول إلى المنصب الرئاسي, أليس حرياً بك أن تصطفي لإدارتك أفضل الكفاءات وأميزها, خاصة في مجالي الأمن القومي والاستخبارات, بكل ما يثيره هذان المجالان من جدل وخلاف واسع في الرأي منذ 11/9 وحتى غزو واحتلال العراق؟ ألا يحرك ذلك الغريزة الأمنية السياسية للرئيس؟ لكن وبدلاً من ذلك, لم يكتف بوش بتعيين "بورتر غوس" –وهو رجل حزبي حتى النخاع- رئيساً لوكالة المخابرات المركزية الأميركية, وإنما سمح للأخير بأن يعين في الموقع الثالث من حيث الأهمية في الهرم الإداري للوكالة, ضابط عمليات الوكالة, "كايل فوج", الذي سبق له أن تولى منصب ضابط العمليات اللوجستية لمكتب "سي آي إيه" في ألمانيا, علماً بأنه المكتب الذي يمد مكاتب الوكالة الشرق أوسطية بما تحتاجه.

والحقيقة أن السيد "فوج" يكاد يكون أمضى كل سنوات خبرته وعمله في الوكالة, في تولي الوظائف الإدارية الوسيطة. وذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" في تقرير لها أن "فوج" قد نال رضا "غوس" وتقرب إليه, خلال الفترة التي كان فيها عضواً بالكونجرس, وذلك من خلال تمريره للمعلومات السرية الداخلية عن الوكالة لـ"غوس", إبان تولي جورج تينيت لإدارتها. لذلك وما أن عين الرئيس بوش "غوس" رئيساً لها, حتى انتشل الأخير صديقه القديم من غياهب العدم ووضعه في هذه الوظيفة القيادية الحساسة, التي يتولى فيها إدارة العمليات اليومية للوكالة. وما كان من السيد "فوج" إلا أن بادر إلى وضع بصمته الخاصة على الوكالة, وذلك بتطهيرها من قدامى الجواسيس والمديرين الذين دمغوا بعدم الولاء للبيت الأبيض.

بيد أن "غوس" ورفيقه "فوج" أرغما على الاستقالة من منصبيهما, إثر التحقيق الذي فتحته هيئة رقابية داخلية بالوكالة, حول ما إذا كان "فوج" قد ساعد في فوز شركة لتعبئة مياه الشرب, يتولى إدارتها صديقه "برينت وايلكس"، وهو أحد مقاولي وزارة الدفاع, كانت قد أشارت إليه أصابع الاتهام بالتواطؤ مع عضو الكونجرس "راندي كننجهام" الذي أودع السجن حالياً بعد إدانته بتهمة فساد عقاري. والمعروف عن "فوج" أنه ليس خبيراً لا في شؤون العراق ولا إيران ولا روسيا, وإنما هو خبير في ينابيع بولندا ومياه فيجي... إلى آخره. والمؤسف أن ذلك هو الرجل الذي اختارته إدارة بوش ضابطاً أول لعمليات "سي آي إيه"!

فهل ثمة وظيفة واحدة في هذه الإدارة, أخطأت طريقها إلى الساسة من ذوي الانتماء الحزبي الصارخ؟! كلا. فذلك ما حدثنا عنه "جورج باكر" مؤلف كتاب "بوابة القتلة" في تعليقه على حرمان خيرة وأبرز خبراء العراق في وزارة الخارجية الأميركية من السفر إلى بلاد الرافدين بعد الغزو مباشرة, بسبب عدم اجتيازهم للاختبار الأيديولوجي الذي أخضعهم له كل من ديك تشيني ودونالد رامسفيلد. وذاك هو لب المشكلة: فقد دأب طاقم بوش على تقديم الولاء السياسي على الخبرة والكفاءة. وما أن تطغى الأيديولوجيا على الواقع, حتى يطغى الولاء الأيديولوجي على الكفاءة والخبرة بضرورة الحال والمنطق. صحيح أن بوش رأى بعينه فداحة الخطأ الذي ارتكبه, وأنه طرد قاطم "غوس" كله من الخدمة. لكن ذلك كلفنا عاماً كاملاً, شهدت فيه الوكالة نفور وهروب خيرة خبرائها وكفاءاتها.

وإنه لمن المضحك حقاً أن ترى بوش وهو يكابد لتحسين صورة إدارته وكسب ثقة الأميركيين فيها مجدداً, عن طريق إجراء تعديلات في طاقمه ووزرائه, بينما يظل هو الطاغي على المشهد الإداري برمته. فنتيجة لتركيز كل السلطات بيده, ليس أمام الرئيس من بد سوى تحمل المسؤولية كاملة عن جميع الأخطاء التي يرتكبها الآخرون في إدارته. وما تغيير الوزراء أملاً في تحسين صورة الإدارة في عيون الأميركيين –على نحو ما حدث لوزير الخزانة- سوى عمل أشبه باستبدال شبح بشبح آخر! وعلى رغم علمي واعتقادي بأهمية الولاء, ماذا يفيد الولاء حين تكون السفينة كلها آيلة للغرق؟ هل تسمعه الحاشية أغنية الوداع الأخيرة, بينما تنزلق السفينة كلها عمودياً إلى قاع المحيط؟ ماذا دهى الرئيس يا ترى؟!