في دارفور، كما في لبنان، كما في فلسطين، كما في الملف النووي الإيراني، يجتمع مجلس الأمن، يتخذ أو يتهيأ لاتخاذ قرارات، أو يمنع من اتخاذ أي قرار كما بالنسبة الى الشأن الفلسطيني... لكن المطلوب واحد: أن تقول الولايات المتحدة ماذا تريد بوضوح، وأن تتعامل مع سائر الدول والأطراف بسياسات تتميز بالمعقولية والعقلانية والتوازن، وأن تظهر فعلاً أنها تتحمل المسؤولية كما يجب أن تفعل دولة عظمى وحيدة.

تجربة التعاطي مع الملف النووي الإيراني وضعت الدول الكبرى في ورطتين، واحدة مع إيران، وأخرى مع الولايات المتحدة. وبلغ الارتباك حد التذمر - الديبلوماسي طبعاً، لأن هذه الدول لا تفهم لماذا هذا الاندفاع الأميركي الغريزي والتلقائي الى ترجيح العمل العسكري واستدراج الآخرين اليه، لكنها لا تفهم أيضاً أن يترافق ذلك مع تصريحات شبه يومية بأن واشنطن تفضل الحل الديبلوماسي. فأحد الخيارين يجب أن يكون كاذباً، لكنه يستخدم على سبيل «التكتيك»، إلا أن الدول الكبرى توصلت الى اقتناع بأن الأميركيين لا يريدون حالياً لا هذا الحل ولا ذاك، كما أنهم يستبعدون أي تفاوض مباشر مع إيران على رغم أن الجميع، أوروبيين وغير أوروبيين، يحضونهم على مثل هذا التفاوض.

خلال الاسبوع الماضي اضطرت الديبلوماسية الاميركية الى التراجع، ليس في الملف الايراني فحسب، وانما ايضاً في ملف مقاطعة السلطة الفلسطينية بسبب وجود «حماس» فيها. ومنذ اللحظة الأولى التي بدأت واشنطن تتوعد فيها الفلسطينيين كان واضحاً انها مقبلة على اعتماد سياسة خاطئة وخرقاء، ولم تنفع معها آراء الاصدقاء العرب ومواقفهم ونصائحهم. الأغرب ان صحف اسرائيل كتبت أخيراً ان الاميركيين بدوا في الاجتماعات أكثر تشدداً من الاسرائيليين أنفسهم لدى مناقشة خيارات الحصار والتجويع للفلسطينيين.

ما الذي يدفعهم الى مثل هذه الاخطاء والمبالغات: هل هم الموظفون الذين يعملون بأجندة صهيونية ليكودية، أم هم صانعو القرار الذين تسيطر عليهم حالياً مشاعر موتورة بسبب تداعيات الاخفاقات العراقية على شعبية الرئيس بوش وصورة الادارة لدى الرأي العام الاميركي؟ في اي حال، وعلى رغم التغيير البسيط الذي طرأ على توحش «الرباعية» حيال الفلسطينيين، فإنه لم يسفر بعد عن معاودة الحوار مع السلطة الفلسطينية ان لم يكن مع «حماس» ايضاً.

بالنسبة الى دارفور، اضطرت واشنطن للدخول مباشرة الى مفاوضات أبوجا من أجل اقناع المتمردين بقبول الاتفاق الذي اقترحه الاتحاد الافريقي وحظي بقبول الخرطوم. اصطدم الاميركيون بالواقع الذي تجاهلوه وتنكروا له، فهم دعموا المتمردين للضغط على الحكومة السودانية، ووجدوا انفسهم أخيراً اسرى الفوضى والتشرذم في صفوف فصائل التمرد. ولم يكن سراً، منذ البداية، أن الأميركيين لا يلتزمون قضية دارفور لدوافع انسانية وانما لأغراض «بزنسية» أولاً وأخرى سياسية تنطلق من عدم الارتياح (الأميركي والاسرائيلي) الى بلد «عربي» بهذا الحجم وهذه القدرات (التي تستفيد منها الصين حالياً)، وبالتالي فهي تهدف الى إضعافه وتفكيكه. هنا، أيضاً، ليس متوقعاً لـ «اتفاق أبوجا» أن يفلح في حل أزمة دارفور، طالما أن الولايات المتحدة ليست جاهزة بعد للتحادث مع الخرطوم مباشرة لتطبيع العلاقات والمصالح.

بعد إخفاق سياسة «نشر الديموقراطية» كما تبنتها واشنطن، ها هي الأخيرة تحاول من خلال إقامة علاقات كاملة مع طرابلس الغرب أن تروّج لـ «النموذج الليبي»، بل تسعى الى اقناع ايران بجدواه، لكنه «نموذج» غير قابل للتصدير ولا هو مشجع على الاقتداء به. واللافت انه حيث تنجح التجربة الديموقراطية، كما في لبنان مثلاً، فإن الأميركيين لا يجدون سبلاً كثيرة للمساعدة، ربما لأن الديموقراطية لم تكن يوماً جزءاً من تقديرهم لسياساتهم في الشرق الأوسط. أما في حالات غياب الديموقراطية فإن ابداعيتهم تتألق، كما في حالة ليبيا، الى حد أنهم ينالون استحساناً اسرائيلياً. الواقع أنه لم تعد هناك أي بوصلة لالتقاط قيم السياسة الأميركية، إذ أصبحت متميزة بتقلباتها وعشوائياتها.