في حدث علمي مثير أُطلق مشروع «العقل التفصيلي المنظم», الذي تشارك في تنفيذه عدة أطراف أبرزها: شركة €آي.بي.إم€ الأميركية للكمبيوتر, وكلية البوليتيكنيك الفيدرالية السويسرية, وجهات أخرى, في محاولة جريئة لترسيم خارطة الدماغ الإنساني, بعد النجاح الكبير الذي حققه اكتشاف خارطة الجينوم. وحسب ما جاء في مجلة أميركية أن المشروع يبدأ بتركيز كمبيوتر ثلاثي الأبعاد, يتضمن عشرة آلاف خلية دماغية عصبية للحصول على حوالى تريليون معلومة حول الدماغ. وسيعتبر العلماء هذه النتيجة مؤشراً أولياً على نجاحه, يستمر العمل بعدها من أجل إكمال عدد الخلايا إلى 100 ألف, يتم وضعها ضمن مصفوفة دماغية واحدة المصفوفة الدماغية الواحدة تتضمن 100 ألف خلية عصبية, وإذا لم يخفق المشروع سيؤدي إلى امتلاك القدرة على التحكم بعقل الإنسان, وبذلك يمكن تصنيع جهاز ريموت كونترول, يتم بواسطته توجيه وبرمجة تفكير «الشخص المستهدف» عن بعد, ليصبح خاضعاً بالكامل لإرادة من يمسك بالريموت كونترول. مما لا شك فيه, إذا نجحت هذه التجربة الخطيرة, فإننا سنرتاح كثيراً في عالمنا العربي, ولا سيما إذا امتلكت الأنظمة هذا الجهاز, لِمَ لا مادام كل شيء معروضاً للبيع؟ وكانت السباقة إلى استعماله. عندئذ, ستتمكن من حل مشكلة المعارضة على أحسن وجه, أي بشكل جذري ونهائي, بالضبط كما طالب إعلان دمشق ­ بيروت بحل المشكلة بين البلدين بشكل جذري ونهائي, بترسيم الحدود نهائياً والاعتراف السوري النهائي أيضاً باستقلال لبنان.

مع وجود جهاز تحكم بالدماغ, لن تحتاج معارضتنا في البلدين الى مثل هكذا بيان, كما لن تحتاج سلطاتنا الى شن غارات اعتقال جماعي, فمن يمسك بالريموت كنترول, سيتحكم بعقل الآخر, ولن يبقى هناك حاجة الى القول: كل واحد عقله شغل يده, وإنما الكل عقل واحد معقول ومعقلن, بلا رأي وحق تعبير ولا طوارئ ولا من يحزنون. غير أن الإنجاز الأهم, يكمن في تجنيب المستقلين الذين لا في هذا الخندق ولا تلك الحفرة, الحيرة إلى جانب من يقفون, هل مع السلطة المتحفزة للانقضاض على كل ما يزعجها, حتى لو كانت برغشة دائخة, في وقت تهطل عليها زخات القرارات الدولية, كل قرار ألعن من سابقه, وتنفتح آفاق المنطقة على مجهول آخر بالإضافة إلى المجهول الذي نعيشه, أم يقفون مع المعارضة المثقفة فقط لأنها مستضعفة ومقموعة, حتى لو لم يتفقوا معها في الرأي والرؤية, خصوصا أن مواقفها لم تعد تنسجم حتى مع تاريخها الثقافي والنضالي؟

المصيبة أن السلطات السورية عبرت عن رأيها فوراً وبشكل عملي جداً, فاعتقلت عدداً من الموقعين على البيان من الجانب السوري, واعتقلت معهم فرصتنا لمناقشة رأي لا نعرف الى أي أساس استند!!
وإذا عدنا إلى ما بدأنا به مقالنا, فنحن لسنا بحاجة إلى جهاز تحكم بالدماغ, بل إلى جهاز غسيل دماغ كي نرتاح جذرياً ونهائياً, فلا نعجب من عتاة السوريين القوميين وأعضاء المؤتمر القومي وعروبيين حتى النخاع وهم يطجون توقيعهم بالعشرة على بيان يطالب بترسيم نهائي للحدود بين سوريا ولبنان!! طبعاً لا نعرف أي حدود, هل هي الحدود المصطنعة التي رسمها سايكس وبيكو, أم حدود حراس الأرز التي تطالب بالزبداني وبلودان وصيدنايا ولا نعرف ماذا أيضاً, أم حدود جبل لبنان بدون الأقضية الأربعة, أم تراها حدود فينيقيا الممتدة على الساحل السوري كله, في هذه الحالة قد يعلقون مع الأتراك؟! وأي حدود يريد ترسيمها أصحاب الزوبعة, حدود سوريا الكبرى بما فيها جزيرة قبرص, وهل لذلك علاقة بأحلام الوحدويين الناصريين وديناصورات القومية العربية, ثم عن أي لبنان وأي سوريا يتحدثون في بيانهم؟ وهل البشر الذين يرسمون بشقائهم الشريط الحدودي حضروا إلى أذهانهم وهم يطالبون بتبادل دبلوماسي بين البلدين, وإعادة النظر بالاتفاقيات الموقعة؟! مطالب لا ينقصها سوى المطالبة أيضاً باعتماد اقتسام هؤلاء البشر نصف هنا ونصف هناك, المسيحيون للبنان لحفظ التوازن الطائفي فيه, والأفضل تطبيشه لإرضاء فرنسا العلمانية في الداخل واليسوعية في الخارج والشيعة والسنة والمرشدية لسوريا لأنهم موالون لها ويشبهونها. كما لابد من أجل تبادل دبلوماسي كامل اعتماد فيزا لعبور نهر العاصي غوصاً بالأقدام, أو على ظهور البغال والموتوسيكلات العابرة للأودية والأنهار.

من سخرية القدر والأكثر سخرية, قول الصحافي جهاد الزين أن الخطأ كان في توقيع البيانوني على البيان, لماذا مادام ضد النظام السوري؟! بينما الخطأ الفعلي, هو توقيع أصدقاء وأساتذة تعلمنا على أيديهم حب «سوريا» أحلامهم وطموحاتهم, منهم أخذنا الإيمان بالعروبة, وفي مقدمتهم الصحفي والناشر رياض نجيب الريس والأستاذ الباحث فواز طرابلسي, وأعتقد جازمة أنهما لم يطلعا على محتوى البيان بدقة كما جرى مع غيرهم, وإنما سئلوا إذا كانوا يوقعون على بيان يطالب بعلاقات مميزة بين البلدين؟ ومع هذا نتمنى ألا تخذلنا مواقفهم, فلم نعد نحتمل المزيد من الانقلابات, وحسبنا سياسات عربية تنقلب وتتقلب على إيقاع السياسة الأميركية.

وما دمنا في هذه الورطة, ليس لنا سوى رجاء واحد هو أن تسهم حكوماتنا وأجهزة مخابراتنا بتمويل بحوث ترسيم خارطة الدماغ البشري, للحصول بأقصى سرعة على جهاز تحكم بالأدمغة, فتريحنا من عقول باتت بفضل مثقفينا من النوافل, وفي الوقت نفسه, ترتاح من الجهود التي تبذلها في الملاحقة وعدّ الأنفاس وحرق الأفطاس.