"إن من حق الاخ على أخيه ان يحترم خصوصياته فلا يتدخل في شؤونه الخاصة، ولا يعتبره قاصرا وله حق الوصاية عليه، بل ان يقوم بينهما تنسيق وتعاون مخلص على كل الاصعدة. ونتمنى ان يقوم في لبنان حكام يجاهرون بهذه الحقيقة بوضوح للحكام في سوريا لتستقيم العلاقات".

المطارنة الموارنة

(في ندائهم الخامس المؤرخ 1/9/2004)

سيدنا البطريرك على حق. مثله مثل الوطن الذي قال عنه الرئيس الراحل سليمان فرنجيه انه "دائماً على حق".

وهو على حق في الموضوع الرئاسي كما في موضوع الحوار.

ونادراً ما افضى سياسي بموقف واضح وشفاف كالموقف الذي عبّر عنه البطريرك صفير بعيد وصوله الى باريس السبت الماضي للمشاركة بالاحتفالات التي تجري في فرنسا بذكرى مرور 150 سنة على تأسيس "عمل الشرق".

واذ عزا ضياع اللبنانيين الى انقسامهم، عاب على فريق منهم ارتباطه بخارج هو ايران "مروراً بسوريا"، وفريق ثان مرتبط بخارج آخر هو الولايات المتحدة واوروبا، وان كل خارج يشد فريقه في اتجاهه فيعرّيه.

اما الفريق"الوطني" وقد سماه البطريرك "الفريق اللبناني" الذي يفترض ان يكون قراراه حراً ونابعاً من مصلحة لبنان التي ناضل كثير من اللبنانيين بقيادة البطريرك طوال 15 سنة لتثبيتها وتأكيد قدرة اللبنانيين على حكم انفسهم بانفسهم – هذا الفريق لا يزال غائباً، وهذا الغياب قد اوقع اللبنانيين في اليأس والضياع، وزاد في التباعد الداخلي.

وقد انتظرنا ردوداً على البطريرك من اولئك الذين كانوا يرفضون الإقرار بتدخل الخارج في اختيار رئيس جديد للبنانيين، وخصوصا الذين كانوا يرددون وراء السفراء الاجانب انهم لا يتدخلون في المسألة الرئاسية بل يعرضون مساعدة اللبنانيين في هذا الامر، بينما هم لا يهدأون من الرابية، الى الارز، فالسرايا، فقريطم، فالمختارة باعتبارها الحدود غير المرسمة للضاحية.

وفي لفتة الى سوريا وضرورة التفاهم معها في الموضوع الرئاسي وسواه، دون الخضوع لاملاءاتها كما في السابق، رغم وجود "بعض الافرقاء على الساحة اللبنانية يتأثرون بنظامها"، قال البطريرك بواقعية صارخة: "اننا لا نستطيع ان نكون على خلاف مع الجار، وعلينا السعي الى ارضية للتفاهم بين سوريا ولبنان".

وكرر رأيه صراحة في العراقيل التي حالت الى الآن دون حسم الموضوع الرئاسي وانتخاب رئيس جديد، مؤكدا "ان هناك دولا واحزابا تتدخل، ولها غايات، ويريد كل منها ان يأتي برئيس يهيمن عليه. ونحن نقول انه لا يجوز ان يأتي رئيس خاضع لحزب او لفئة من الناس".

وما الحل اذاً؟

يجيب البطريرك: "لبنان بلد صغير، تتقاذفه الامواج. وهناك نفوذ من دول لها تأثيرها، ولبنان يحمل هذه التأثيرات. وعلى اللبنانيين ان يحزموا امرهم معتبرين ان مصلحتهم تقضي بان يكونوا موحّدين في سبيل لبنان".

ويستدرك: "لكن الامر ليس كذلك، والكل يتأثر بمصلحته الخاصة".

ان هذا النعي من البطريرك للاستقلال والسيادة والقرار الحر التي ظن العالم ان اللبنانيين قادرون على تحقيقها والتعبير عنها بابسط المظاهر، اي الوحدة، يجب ان تستفز الجميع، غالبية واقلية على السواء.

واشارة البطريرك الى ضرورة مداواة "تأثر لبنان بما حوله من احداث"، استدعت نصيحة بازالة اي "خلاف مع الجار"، واستكشاف "ارضية مشتركة للتفاهم" معه. ولكن، من يستطيع ازالة الخلاف مع سوريا، حول الامن، والحدود، والتمثيل الديبلوماسي، والعمالة، والتعاون الاقتصادي وصولا الى التكامل...؟

وبأي طرق؟

وماذا نفعل اذا فشلت الاساليب التي استعملنا الى الآن، اي طلب المقابلات، واعداد جداول الاعمال؟

والبعض، ممن خبروا الدهاء السوري والعقلية الاستخباراتية وحتى التآمرية منذ القطيعة والفصل الجمركي والنقدي اواخر الاربعينات ومطلع الخمسينات، ينظرون الى القرار 1680 على أساس انه أفضل حام لبلد صغير كلبنان. وهو مثل القرارات 425 و426 و520 و1559 وما تلاها، من شأنه تحصين الاستقلال والسيادة والقرار الحر بشرعية دولية يفترض في الدول الموقعة على ميثاق الامم المتحدة، وفي مقدمها سوريا، احترامها. وإلا ماذا تركت لاسرائيل التي يتهمها العرب بالامتناع عن تنفيذ القرارات الدولية ولا سيما تلك المتعلقة بحقوق الشعب الفلسطيني؟

ثم ماذا يبقى من الشرعية الدولية، وماذا يُرتجى منها لفلسطين ولسوريا ايضا في الجولان المغتصب والمحتل، اذا كانت دمشق ستحذو حذو تل ابيب في تجاهل قرارات مجلس الأمن، وهي الموقعة لشرعة تأسيس الامم المتحدة التي تنص في الفقرة الثانية من مادتها الاولى على ان مقاصد الامم المتحدة هي "انماء العلاقات الودية بين الامم على اساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب، وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها"؟

وورد في المادة الثانية، فقرتها الاولى، حول عمل الهيئة وأعضائها في سعيها وراء المقاصد المذكورة في المادة الاولى: "تقوم الهيئة على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها"، وهذا ما شجّع عليه القرار 1680 في شأن ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا، والتمثيل الديبلوماسي، ووقف ادخال الاسلحة الى لبنان، وبذل "مزيد من الجهود" لحل "الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية" والتعاون التام من أجل "التطبيق الكامل لكل مقتضيات القرار 1559"، علما ان سوريا لا تستطيع التهرب من تنفيذ قرار صادر عن هيئة دولية وقعت ميثاق انشائها، وتعهدت مع بقية الاعضاء الموقعين، ولبنان بينهم، ان "يمتنع اعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة، او استخدامها ضد سلامة الاراضي او الاستقلال السياسي لأي دولة، او على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الامم المتحدة".

ويعتبر التمثيل الديبلوماسي أحد أهم وجوه الاستقلال السياسي، وتحرص الدول على المحافظة عليه، حتى حين تنخرط في اتحاد كمثل الاتحاد الاوروبي حيث حافظت دوله على التمثيل الديبلوماسي في ما بينها.

ولو كانت الجامعة العربية مجدية وفاعلة لكنا ذكّرنا سوريا بها وهي الموقعة مع لبنان لميثاقها الذي يقول في المادة الثانية: "الغرض من الجامعة توثيق الصلات بين الدول المشتركة فيها، وتنسيق خططها السياسية تحقيقا للتعاون في ما بينها وصيانة استقلالها وسيادتها والنظر بصفة عامة في شؤون البلاد العربية ومصالحها".

ان سوريا اذا استطاعت تجاهل ميثاق الجامعة العربية المشلولة، فانها ستجد نفسها عاجزة عن وضع نفسها خارج المجتمع الدولي.

ان "الارضية المشتركة" بين لبنان وسوريا التي تحدث عنها البطريرك صفير قد جسّدها القرار 1680 بصراحة ووضوح.

أما الرئيس اميل لحود المتجاهل الرأي العام الذي يكاد يجمع على ضرورة ذهابه الى منزله بسلام، بعدما شرشح الرئاسة الى درجة بات البطريرك الماروني يخشى "الاستغناء عنها"، فهو يتسلح بالدستور الذي انتهك في التمديد له. ويكفيه حكم البطريرك عليه انه أفقد الرئاسة "حصانتها التاريخية" وهمّشها حتى يفهم مقصده ويمشي. وهل يريد أكثر من ذلك؟