تعاملت وسائل الإعلام السورية مع <إعلان بيروت دمشق اعلان دمشق بيروت>، كأنه تعبير عن أحقاد المثقفين الذين وقعوه، وصوت ضد سوريا وسلطتها السياسية، وتنسيق مع السياسة الأميركية وضغوطها على مجلس الأمن لإصدار القرار (1680)، وباختصار كأنه موقف عدائي صريح وساذج لا يدرك الظروف السياسية الدولية القائمة حيث تخلى المثقفون من خلاله عن مسؤولياتهم وأغمضوا أعينهم عما يحاك ضد بلدهم من مخاطر وتجاهلوا ما قدمت سوريا للبنان خلال العقود الثلاثة الماضية، وغيرها من أسباب النقد والاتهام، ومنها ما وجه للكاتب والصحافي والناشط المعتدل ميشيل كيلو كالنيل من هيبة الدولة وإثارة النعرات وغير ذلك.
أزعم أنه لم يكن من مهمات البيان استعراض تاريخ العلاقات بين سوريا ولبنان، والإشارة إلى الأخطاء التي ارتكبت، وتحديد المسؤولية، وتقويم المراحل السابقة البعيدة والقريبة، لأن كل ما هدف إليه هو أن يعبر مثقفون في البلدين عن آرائهم (وبالدقة عن التوافقات في آرائهم) حول ما وصلت إليه العلاقات، بعد التدهور الذي حدث خلال عام ونيف مضيا ويزداد يوماً بعد يوم، ويتحول إلى قطيعة أو شبه قطيعة ليس بين السلطتين السياسيتين بل بين الشعبين، ويتكرس عداء ينعكس سلباً على مصالح الجميع ويفصم الوشائج التي لا تنفصم ويؤسس لقطيعة لا يعلم أحد متى تنتهي. ومن واجب المثقفين هنا وهناك أن يلعبوا هذا الدور شأنهم شأن منظمات المجتمع المدني السياسية والمهنية والنقابية والمجتمعية بشكل عام، ولأن السياسيين يقودون العلاقة إلى الهاوية كما قادوها خلال ثلاثين عاما في ضوء مصالحهم التكتيكية وحاجاتهم الطارئة وأمزجتهم ورغباتهم العارضة، فالحري بالمثقفين أن يقولوا ما قالوه وأن يفصحوا عن رأيهم بإخلاص وجدية ومسؤولية تنقص بعض المسؤولين السياسيين، وفي الحالات كلها فإن رأي المثقفين هذا لا يبرر الاتهامات الواسعة الطيف التي وجهها الإعلام السوري للبيان وموقعيه وحملة الاعتقالات التي ما زالت تتصاعد.

أما ميشيل كيلو المتهم الرئيسي فمعروف باعتداله وبمواقفه المسؤولة وبحرصه على بلده وبشعوره الوطني العميق، وإيمانه بالحوار وإدانة العنف، وبمعاداته للضغوط الخارجية والعقوبات التي تتعرض لها سوريا، والتزامه القومي الكامل والمتعقل، ورفضه الحازم للطائفية والمذهبية والعشائرية وتمسكه بمرجعية المواطنة، حيث يرى الدولة دولة مواطن فرد حر متساو ومتكافئ، وقد ناضل ويناضل لإقامة نظام ديموقراطي يحقق الحرية والعدالة والتعددية ويعتمد تداول السلطة وفصل السلطات ويحترم الرأي الآخر، فهل تشكل هذه الصفات والممارسات جريمة؟ وهل يتهم من يحمل هذه الآراء بأنه ينال من هيبة الدولة ويحرض على الطائفية والعنصرية، وكيف يصدق من يعرف ميشيل كيلو حق المعرفة أنه متورط بمثل هذه التهم؟

إن الأمر برمته لا يتجاوز موقفاً ورأياً، ومحاكمة ميشيل كيلو لا تعدو كونها محاكمة الرأي الآخر وحرية الكلمة، خاصة أنه والمعتقلين الآخرين لم يؤسسوا تنظيماً سرياً أو يحملوا سلاحا ضد السلطة أو يمارسوا أعمالاً تقلق المجتمع وتعرضه للخطر، وإنما قالوا رأياً (صحيحاً كان أم خاطئاً) آمنوا به وهم حريصون على وطنهم. ثم هل من المقبول في عصرنا أن يحاكم أحد على رأيه، ومن حق المراقب هنا أن يتساءل هل هي محاكمة سياسية أم جزائية، أم أنها نتاج أزمة أخلاقية وأزمة موقف من الحريات والديموقراطية ورفض الحوار الوطني والتوافقات الوطنية. كان يجب تناول القضية في إطار موقف وطني مسؤول لا بإطلاق التهم من دون دليل جدي، وإبعاد الحدث عن سياقه والرأي عن إطاره العام، ورؤيته بعين واحدة وقصيرة النظر أيضاً.

إن سوريا التي تتعرض لضغوط لا سابق لها بحاجة ماسة لعقد الحوار بين فئاتها السياسية وشرائحها الاجتماعية للوصول إلى توافقات وطنية ووحدة وطنية قادرة على مواجهة الضغوط، كما هي بحاجة لتحالف بين فئات الشعب كلها ولملمة إمكانياتها وتكريس جهودها للمواجهة، ومن المؤكد أنها ليست بحاجة لمزيد من الاحتقان واعتقال أصحاب الرأي الآخر. ومن يظن أن الضغوط الداخلية تضعف الضغوط الخارجية وتبعثرها وتفشلها فإنما يزيد المصاعب تعقيداً ويحرث في البحر.
لعل من مصلحة سوريا (والسلطة السورية أيضاً) مواجهة صعوباتها بمنهجية مختلفة وأساليب مختلفة ليست أمنية بالتأكيد، وإلا فإنها تعمل ضد نفسها. وهل هناك من لم ينتبه إلى انشغال الإعلام العالمي خلال الأيام الماضية بأخبار الاعتقالات في سوريا حتى بدا كأنه لا يوجد في بلادنا سوى الاعتقالات؟