للمرة الثامنة والخمسين مرَّت هذا الأسبوع ذكرى اغتصاب فلسطين، وقيام الدولة اليهودية على أرضها، حيث تمددت فيما بعد باتجاه مصر وسوريا والأردنّ ولبنان. وظلّت منذ عام 1956 في موقع المبادر بالهجوم والاستيلاء على سائر الدول العربية المُحاذية لفلسطين وغير المحاذية مثل العراق وتونس. وعنوان هذه المقالة في ذكرى ضياع فلسطين ليس لي. بل هو للمؤرخ والمفكر العربي المعروف قسطنطين زريق، الذي بادر ولمّا يمض عامٌ على الكارثة، بتأليف كتابٍ صار مشهوراً في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، بعنوان: "معنى النكبة". فلمّا حدثت كارثة عام 1967 بادر الدكتور زريق للمرة الثانية بكتابة تقريرٍ آخَرَ للموقف بعنوان: "معنى النكبة مجدَّداً". في الكتاب الأول اعتبر الأستاذ زريق (رائد حركة القوميين العرب) أنّ الهزيمة العربية في فلسطين ما كانت عسكريةً وسياسيةً فقط؛ بل هي حضاريةٌ أيضاً. وتوقّع زريق أن تكونَ النتيجةُ أو العاقبة القطْع مع الماضي المتشرذم والمتخلّف لصالح نهوضٍ عربيٍ كبيرٍ، يوحّد العرب، ولا يضع حداً لاستعمار فلسطين فقط؛ بل يؤدي إلى حاضرٍ ومستقبلٍ آخَرين لشباب الأمة العربية، ولهذه المنطقة الحضارية الكبرى.

صحيحٌ أنّ مقاربات زريق وزملاءه اتّسمت بالإرادوية والثقافوية (التركيز على الوعي القومي)؛ لكنْ ما بدت مُبالغةً في الدعوى أو التفاؤل. فعندما خاض العربُ حربَ فلسطين، ما كان عدد الدول العربية المستقلة مشرقاً ومغرباً غير سبع. وكان هناك انقسامٌ مروّعٌ بين محورين عربيين: المحور الهاشمي، والمحور السعودي/ المصري. وفي الخمسينيات من القرن الماضي، تغيرت أنظمة الحكم في دولٍ عربيةٍ رئيسية، وتحققت الوحدةُ بين مصر وسوريا وأوشكت أن تمتدّ للعراق. وزادت موازينُ العرب في السياسة الدولية نتيجة نشوب الحرب الباردة، وحاجة القطبين إليهم على حدٍ سواء. وبرز الاعتمادُ على البترول العربي من جانب الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، ووقع العربُ في قلب حركة التحرر من الاستعمار بآسيا وإفريقيا، وحركة بناء الدولة القومية الحديثة والنامية. وقد أكدت "حرب السويس" على "حركة التاريخ" التي لا رجعةَ فيها. فقوى الاستعمار القديم (فرنسا وبريطانيا) والتي غزت مصر بالتحالف مع إسرائيل، لتغيير نظام الحكم الجديد فيها، خسرت المعركة الدبلوماسية والسياسية، لوقوف الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ضدَّها، حرصاً على خطب وُدّ مصر، وتنافُساً على كسْب العرب، الذين بدوا قوةً مستقبليةً يُحسبُ لها حساب كبير في موازين الحاضر والمستقبل.

على أنّ مدَّ الخمسينيات المتفائل، انقلبت حركتُهُ تراجُعاً في الستينيات. في عام 1961 حدث الانفصالُ بين مصر وسوريا. ودخلت مصر في صراعاتٍ لا تنتهي مع البعثيين في سوريا والعراق. وخاضت مصر حرباً خاسرةً أُخرى في اليمن بشطريه. في اليمن الشمالي أمكن الاحتفاط بالنظام الجمهوري؛ لكنْ بخسائر كبرى ومع شعور شديد بالمرارة هناك ضدَّ مصر. وفي الجنوب آثر البريطانيون تسليم السلطة بعَدَن للشيوعيين بدلاً من قوميي جمال عبد الناصر. بيد أنّ الانحسارَ المصريَّ بلغ ذِروتَهُ بالهزيمة أمام إسرائيل في 5 يونيو عام 1967. وما تنبَّه الكثيرون إلى "مكر التاريخ" لاختلاط الظواهر. إذ في عام 1965 بدأت المقاومة الفلسطينية المسلَّحة ضد إسرائيل من الأردنّ ثم من لبنان، وخاضت مصر على قناة السويس حرب استنزافٍ ضدَّ الاحتلال الإسرائيلي. ثم كانت حرب أكتوبر عام 1973 والتي حقّقت توازُناً في القوى للوهلة الأولى، دون أن توقف التراجع الاستراتيجي العربي، الذي أفضى إلى صُلْحٍ مصريٍ مع إسرائيل 1977/1979، وأخرج مصر بالتالي من التنافُس على زعامة المشرق العربي حتى اليوم.

وكانت خسارةُ العرب بخروج مصر مزدوجة. فمن جهةٍ أُولى ما عاد ممكناً خوضُ حربٍ ضدّ إسرائيل في غيابها. ومن جهةٍ ثانية اندلع صراعٌ بين العراق وسوريا على زعامة المشرق العربي، ما خمد أُوارُهُ إلاّ بهزيمة صدَّام حسين في الكويت عام 1991. وبدلاً من الاتجاه للبناء الذاتي أو للتعاوُن في استرجاع الجولان من إسرائيل أو معاونة منظمة التحرير الفلسطينية في صراعها مع إسرائيل، انصرف صدام حسين وحافظ الأسد لمصارعة أطراف منظمة التحرير من أجل استتباعِها، وانقضَّ صدّام بما توافر لديه من قوة على إيران؛ في حين انقضَّ حافظ الأسد على لبنان، والنارُ تأكُلُ بعضَها إن لم تجدْ ما تأكُلُهْ!

على مشارف السبعينيات من القرن العشرين صدر كتاب قسطنطين زريق الثاني: "معنى النكبة مجدَّداً". وفي الوقتِ نفسِه صدر كتاب مالكولم كير:الحرب الباردة العربية (1959-1969). بدا زريق خائبَ الأمل تماماً ومملوءًا بالشكوك. ما التفت كثيراً إلى صعود الكفاح الفلسطيني المسلَّح، ولا بنى آمالاً كباراً على أعمال الفدائيين من حول فلسطين. ففي نظره كانت هناك أزمةٌ حضاريةٌ عربيةٌ كبرى تتجاوز مجرى الصراع على فلسطين. النهوض العربي العلمي والتعليمي والتربوي والاقتصادي لم يتحقق. والأنظمة السياسيةُ العربية على اختلاف أشكالها لا تُظهر قابليةً للتطور بالاتجاه الملائم. ما افتقد زريق الديموقراطية، كما فعل من بعد في الثمانينيات والتسعينيات؛ بل افتقد دولة المؤسسات، وتشاءم كثيراً بتعملق النزعات العسكرية، وظهور فكرة القائد الفرد في العالم الثالث من جديد، والتي اعتقد أنّ الحرب العالمية الثانية قد اسقطتها إلى غير رجعة. وظلَّ الرجُلُ حذراً حتّى إزاء الحركة النقدية التي برزت بعد النكسة عام 1967. إذ أنّ صادق جلال العظم، وياسين الحفاظ، وآخرين كثيرين، رأوا العلّة في عدم اعتناق الماركسية–اللينينية، وغلبة الاتجاهات التقليدية والبورجوازية في المجتمع والدولة!

أمّا مالكولم كير، وهو بدوره ليبراليٌّ أميركي، فقد اعتقد أنَّ استقطابات الحرب الباردة، هي السبب في ما أصاب العرب في المشرق والمغرب خلال الستينيات. فقد انحازت أنظمة الضباط في النهاية إلى الاتحاد السوفييتي، ووقف الأميركيون من وراء الأنظمة التقليدية، وازدادوا قُرباً من إسرائيل، وخاضوا صراعاتٍ على مستوياتٍ متعددةٍ لتعويق انتشار الشيوعية بالمشرق في ما اعتقدوا. وهكذا رأى مالكولم كير (الذي صار رئيساً للجامعة الأميركية ببيروت عام 1982، وجرى اغتياله عام 1984) أنّ العرب خاضوا طوال الستينيات حروباً ونزاعاتٍ بالواسطة، استنزفت مواردَهُم وقُواهُم، وزادت من تبعيتهم للقوتين الأعظم. لكنْ: هل حدث ذلك بوعيٍ وقصدٍ أم بالتداعي والاستهداف غير المباشر؟ هذا ما تختلفُ فيه أنظارُ الباحثين منذ أواسط الستينيات وحتى اليوم؟!

أين صارت أمور العرب في الذكرى الثامنة والخمسين للنكبة؟ لقد حدث تقدمٌ نِسْبيٌّ في مسألة فلسطين، لأنّ الفلسطينيين ومنذ اتفاقيات أوسلو عام 1993 وهم يخوضون الصراع على فلسطين من أرضهم وليس من بيروت أو تونس. وما يزال الأَمْرُ عسِيراً جداً عليهم وعلينا؛ وبخاصةٍ بعد الانقسام بين "حماس" و"فتح"، وإيكال "الإشراف" في التعامُل مع الصراع إلى "اللجنة الرُباعية" التي "لم تستطع" فعل شيء حتى الآن! وفي ظني أنّ الأميركيين لا يريدون فعل شيء تفيدُ منه "حماس"، وبخاصةٍ أنهم يتهمونها بـ"الولاء لإيران"، وممارسة "الإرهاب".

والأمر الإيجابي الآخَر: الانكفاء النسْبي في النزوع العسكري والهجومي للكيان الإسرائيلي. فقد انسحب الإسرائيليون من لبنان ومن غزة. وقد ينسحبون من أكثر الضفة الغربية؛ لأسبابٍ تتعلق بيهودية الدولة، وبمجتمع الرفاه والنموّ الذي أنشأوه.

بيد أنّ الانكفاء الإسرائيلي، والتقدم النسْبي الفلسطيني؛ لا يخلّفان الأثر الإيجابيَّ المرجوَّ على الأوضاع في المشرق العربي. فهناك من جهةٍ الاجتياح الأميركيُّ للشرق العربي وللجزيرة. وهناك من جهةٍ ثانيةٍ المواجهة الإيرانية للهجومية الأميركية، والإعراض التركي الذي كان يمكن أن يُحدثَ بعض التوازُن. والعربُ حاضرون بثروات بلادهم الطبيعية، وبموقعها الاستراتيجي، وبمحاولاتهم الآن لركوب قطار السوق والتنمية. لكنهم غائبون عن دائرة الفعل والفعالية، ودائرة الصراع على المنطقة. وهكذا فالمعنى الجديد للنكبة الثانية أو الثالثة أنّ الضعف الناجم عن الاستتباع، والتشرذم، وجمود الحكم، والظاهرة الإسلامية المشكلة؛ كل ذلك قد يُضيعُ علينا الفرصة المتاحة من جديدٍ للنمو وللتقدم.