في الرد على القرار الدولي 1680، وقبله مطالبة الحكومة اللبنانية، تقول دمشق انها تؤيد إقامة علاقات ديبلوماسية مع بيروت وترسيم الحدود بين البلدين الجارين. لكنها في الوقت نفسه تشدد على ان الظروف الراهنة لا تتيح تنفيذ هاتين الخطوتين، مبررة ذلك بعداء قسم من اللبنانيين لها، وبأنه في ظل هذا العداء والحملات الاعلامية والسياسية عليها تتوقع قطع هذه العلاقات سريعا. ويضيف المنطق نفسه ان ما بين البلدين يتجاوز بكثير العلاقات الديبلوماسية الرسمية، نظرا الى التشابك والتقارب على المستويات كافة.

اذن، لماذا العجلة؟ لتعالج المشكلات الثنائية وتسويتها أولاً. ومن ثم تأتي العلاقات الديبلوماسية تتويجا لهذه التسوية. ويلقى هذا المنطق تأييدا لدى حلفاء سورية في لبنان، والذين انضم اليهم أخيراً الجنرال ميشال عون. ورغم انه من المفترض ان الحوار الوطني اللبناني الذي يشارك فيه حلفاء سورية وخصومها اوجد توافقاً على ضرورة إقامة هذه العلاقات، يبدو الواقع غير ذلك. فالانقسام الداخلي في لبنان يوفر مبررات اضافية للمنطق السوري الرافض، حالياً، لإقامة العلاقات ولترسيم الحدود خصوصاً في مناطق شبعا، كما اشار القرار الدولي. علماً ان دمشق تتعامل مع القرار وكأنه صيغة اميركية - فرنسية للضغط عليها في علاقاتها الاقليمية، وهذه حجة إضافية لرفض مضمونه.

كل هذا الجدل الذي لا يتوقع ان ينتهي قريبا، لا يلاحظ إلا لماماً وبطريقة غير مباشرة معنى العلاقات الديبلوماسية بين بلدين مستقلين. ذلك ان العلاقات الديبلوماسية تنسف مباشرة ميزان القوى لتضع البلدين المعنيين على قدم المساواة وتوفر شروط التكافؤ بغض النظر عن حجم كل من الدولتين. فالعلاقات الديبلوماسية تغطي التفاوت الكبير بأحجام الدول وتجعل اكثر صعوبة امكانات ضغط الكبير على الصغير، من دون أن يلغي ذلك احتمالات التأثير عليه بطرق اخرى.

وفي الحالة اللبنانية - السورية، كانت العلاقة في اتجاه واحد منذ استقلال البلدين. أي كون الآخر مصدر تهديد داخلياً، وتعزز هذا النهج بفعل الاضطرابات السورية الداخلية في مرحلة أولى وانفجار الحرب اللبنانية. ولم يؤسس الجوار لعلاقات مؤسساتية ظلت دائماً علاقات أجهزة أمنية وفي احسن الأحوال علاقات لوبيات حزبية. أما الروابط الاخرى، من اجتماعية واقتصادية وغيرها، فظلت تخضع لقوة الدفع السابقة على الاستقلال، وتكرر ما كان عليه الوضع ايام العثمانيين. وعندما استقر الوضع في سورية، بعد الحركة التصحيحية، والذي تزامن مع بداية الاضطراب في لبنان، تضخم دور الاجهزة على حساب التفكير في علاقة مؤسساتية. حتى ان الملف اللبناني لم يعد من اختصاص الخارجية السورية، كما توجب العلاقات بين الدول، وانما من اختصاص جهاز امني. وفي الوقت الذي كانت تتعزز الاجهزة في سورية كانت نظيرتها اللبنانية تنهار، فكان من البديهي ان يغلب منطق الاقوى والمستقر، وتُصاب العلاقة بخلل كبير. ومنذ بداية الحرب في لبنان ونتيجة لهذا الخلل، ومع دخول القوات السورية الى لبنان، بات رئيس جهاز الامن فيها هو الممر الاجباري لأي علاقة، ومن أي نوع كان بين البلدين.

وهذا ما ينبغي ايجاد حل له، بعد خروج القوات السورية وما راكمته الاجهزة من اضرار في طبيعة العلاقات المؤسساتية. فإقامة العلاقة الديبلوماسية تحول المعبر بين البلدين سفارة تتبع نظرياً للخارجية (أي للدولة) وليس لجهاز، وتالياً يمكنها ان تنزع عن العلاقة الجوهر الزبوني والمصلحي، وتوفر فرصا للتكافؤ مفقودة في السابق، وتكرس مبدأ الاعتراف للآخر بأن الاستقلال يعني السيادة قبل الاخوة. لان السيادة حق مكرّس، بينما الاخوة - خصوصاً العربية - تعطي الامرة للكبير على الصغير.