اتخذ مجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة قراراً برقم 1860 «يشجع بقوة» سوريا على ‏تبادل التمثيل الدبلوماسي مع لبنان وعلى ترسيم الحدود بين البلدين.‏
وهذا الموقف الذي اتخذته الأكثرية في المجلس، مع حجب دولتين عظميين هما: روسيا الاتحادية والصين ‏الشعبية صوتيهما، هو حدث فريد من نوعه في تاريخ المنظمة الدولية ولا سابقة له في تاريخ ‏قرارات هذه المنظمة. وقد يقول قائل إن مجلس الأمن اتخذ قراراً بعد حرب الكويت والعراق ‏المسماة حرب الخليج الأولى يدعو إلى ترسيم الحدود بين البلدين. إلا أن هذه المقارنة غير واردة ‏لأن الظروف التي سبقت القرار الخاص بالعراق والكويت مختلفة اختلافاً كليّاً عن الأوضاع ‏الحالية بين لبنان وسوريا.‏

وبالعودة إلى ميثاق الأمم المتحدة يظهر أولاً أن هذا الميثاق الذي أُعلن في سان فرنسيسكو ‏بعد الحرب العالمية الثانية يؤكد (ولا يشجع فقط) على استقلال وسيادة الدول.‏
ولا يوجد في الميثاق ما يدعو إلى ممارسة المنظمة الدولية حقوق السيادة بدلاً من الدول ‏المستقلة ذات السيادة، وما يدعو إلى إلغاء سيادة الدول.‏
وإذا كان العراق قد هاجم الكويت (الدولة المستقلة) في الحرب الخليجية الأولى بذرائع منها ‏استغلال الكويت آبار النفط الموجودة تحت مناطق الحدود العراقية - الكويتية.‏
فإن الوضع بين لبنان وسوريا ليس ناجماً عن حرب أو نزاع عسكري (أو حتى غير عسكري) بين ‏البلدين. وكل من البلدين معترف وبدون تحفظ باستقلال وسيادة البلد الآخر ولا يوجد نزاع ‏على مناطق حدودية أو غير حدودية.‏

ولم يعلن أي من البلدين الشقيقين أطماعاً إقليمية في البلد الآخر.‏
وما يثيره بعض الحاكمين (سعيداً) حالياً في لبنان من اتهامات لسوريا ونظامها تتناقض مع ‏موجبات الأخوة والجوار والمصالح المشتركة الآتية من الجغرافيا والتاريخ المشترك والمصالح المشتركة ‏والمصير المشترك، ولكنها في مطلق الأحوال لا تشكل تهديداً للأمن والسلام مما يستدعي تدخل مجلس ‏الأمن التابع للأمم المتحدة أو غيره من مجالس أو هيئات الأمم المتحدة.‏

وإذا سكت المجتمع الدولي، والدول العربية المعنية بالدرجة الأولى، عن تدخل الأمم المتحدة ‏وإملائها القرارات والمواقف العائدة لممارسي حقوق السيادة والاستقلال من الدول، فليس من ‏الغريب أن تجد معظم الدول العربية نفسها في وقت من الأوقات أمام قرارات عمل على ‏إصدارها المندوب الأميركي بولتون أو غيره من ممثلي الولايات المتحدة الأميركية تدعوها إلى ‏إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل أو إلى الاعتراف بالحدود التي ترسمها إسرائيل لنفسها ‏وللدولة الفلسطينية المنصوص على قيامها في قرار الجمعية العمومية رقم 181 وإذا كان بعض ‏‏(المستقبليين) الذين يقودون الحملة على سوريا على شاشات التلفزيون وصفحات الجرائد وعبر ‏الإذاعات المسموعة في لبنان قد رحبوا بقرار مجلس الأمن ودعوات بولتون فإن ترحيبهم هذا ‏ليس آتياً من «شدة» وطنيتهم وعروبتهم وحرصهم على لبنان ووحدته ارضاً وشعباً.‏

ومهما بذل المشاركون في الحملة على سوريا بقيادة السفير الأميركي فيلتمان من جهد للظهور ‏بمظهر الحريصين على سيادة لبنان واستقلاله فإنهم سيظلون عاجزين عن إخفاء الخيوط المرئية ‏التي تربط الحملة المعادية لسوريا بالهجوم الأميركي على المنطقة وبالموقف الإسرائيلي من ‏لبنان وسوريا وفلسطين.‏

هذا الموقف الآتي من التداخل القوي بين الاستراتيجية السياسية الأميركية الشاملة والأطماع ‏اليهودية الصهيونية في السيطرة على بلدان الشرق الأوسط وفي تحقيق التوسع الإقليمي المستند ‏إلى الأساطير المعروفة من أن «الأرض» ممنوحة لليهود من دون جميع شعوب المنطقة.‏
ولا يوجد على الساحة الوطنية اللبنانية اليوم، أو في أي يوم مضى، من هم أكثر وطنية ‏لبنانية وعربية من أبطال الاستقلال اللبناني وسدنة الوحدة الوطنية اللبنانية.‏

وليس في تاريخ لبنان الحديث رئيس وزراء أدعى أو يحق له أن يدعي أنه أكثر وطنية وعروبة ‏من القائد الوطني التاريخي رياض الصلح.‏
ولا يوجد في لبنان اليوم من يستطيع التشكيك في وطنية هذا الرئيس الذي وضع مع الرئيس ‏بشارة الخوري وبقية أبطال الاستقلال الأسس التي قام عليها استقلال لبنان وانتماؤه العربي ‏وأعلنه مع رفاقه وطناً أزلياً لجميع اللبنانيين.‏

رياض الصلح لخّص بكلمات قليلة أساس بقاء واستمرار لبنان ووحدة أرضه وشعبه عندما قال: ‏‏«إن لبنان لن يكون للاستعمار مقراً ولا ممراً إلى البلدان العربية الأخرى».‏
ولا أظن أن أحداً في لبنان يستطيع الإدعاء أن سوريا التي تشترك مع لبنان بحدود تم القبول بها ‏خطوطاً للوصل لا للفصل ليست من الدول العربية التي عناها رياض الصلح وبشارة الخوري ‏وبقية صنّاع الاستقلال اللبناني.‏

وضمانة الاستقلال اللبناني ليست في واشنطن أو باريس أو برلين أو تل أبيب ولن تكون. ‏
والسياسيون اللبنانيون الذين يبدون استعدادهم علناً أو ضمناً لإعادة النظر في أسس ‏الكيان اللبناني وانتمائه العربي وفي المبادئ التي أعلنها أركان الاستقلال الوطني ‏اللبناني وينطلقون إلى عواصم الدول المعادية للعرب والطامعة والواقفة إلى جانب ‏إسرائيل، ظالمة كانت أو مظلومة، إنما يُدخلون لبنان في لعبة دولية خطيرة غير مأمونة ‏النتائج وغير معروفة المآل.‏

واللبنانيون الذين راهنوا على إسرائيل يوماً وذهبوا إليها ليجربوا الارتهان لهذا الكيان ‏العنصري - العدواني ولطخوا أيديهم بدم أخوتهم اللبنانيين جازفوا بمصير لبنان وجازفوا ‏بمصير مئات الألوف من الذين أداروا ظهرهم للبنان مفتشين عن مكان لهم تحت الشمس تاركين ‏وطنهم للرياح التي تعصف في جوّه.‏

واليوم!‏
يركب مركب المجازفة الخطيرة من يعتقد أن لبنان يمكن أن يقبل بقطع علاقاته وارتباطه بالمحيط ‏العربي، ومنه سوريا، كي يرتبط بإسرائيل عبر الولايات المتحدة ودول غربية أخرى.‏
ويخطئ الحكام والسياسيون الذين يذهبون إلى واشنطن وغيرها لتقديم أوراق الاعتماد وإبداء ‏الاستعداد لارتكاب كل موبقة سياسية وللاشتراك في أي مؤامرة يحيكها سيدهم الجالس في البيت ‏الأبيض وحكام إسرائيل الذين أعلنوا على جميع العرب، فلسطينيين ولبنانيين وسوريين ومصريين ‏وأردنيين وغيرهم). ومثل خطيئة الاشتراك مع العدو الأميركي والإسرائيلي في التآمر على العرب ‏هي خطيئة لا تغتفر والشعوب لن ترحم الذين يعبثون بمصائرها واستقلالها وسيادتها ووحدتها ‏الوطنية وانتمائها القومي.‏
والولايات المتحدة لا تحمي أحداً من العملاء الساقطين، ولا تهب لنصرتهم.‏
والتاريخ شاهد على ذلك.‏

أين حكام فيتنام الجنوبية الذين كنّسهم الفيتناميون من أرضهم مع المحتلين الأميركيين؟‏
وأين هو شاه إيران الذي طرده الشعب أول مرة فأعاده الأميركيون ثم عاد الشعب وطرده مرة ‏ثانية وإلى الأبد فتاه بين قارات الأرض يفتش عن مأوى له؟
وأين هو ديكتاتور الفيليبين الذي رهن نفسه للأميركيين ألم يمت قهراً بعد أن طرده الشعب ‏الذي ظنوا أنه خنع وسكت؟
وأين بقية قائمة العملاء الذين رهنوا أنفسهم للاستعمار الأميركي؟
لقد رمتهم الولايات المتحدة في سلة المهملات التاريخية كما يرمي المرء أي ورقة ذهب وقتها ‏أو فقدت صلاحيتها واستحقت التمزيق والإزالة من الوجود.‏

والشرق الأوسط بالنسبة إلى الولايات المتحدة ليس شيئاً مختلفاً عن فيتنام وإيران والصومال ‏وغيرها.‏
وإذا كان التركيز منصباً على العلاقات بين لبنان وسوريا فما ذلك إلا لأنه السابقة التي ‏تريد الولايات المتحدة ترويجها وتشريعها في العالم لبسط وصايتها على العلاقات الثنائية بين ‏دول العالم ولانتزاع شبه اعتراف من الأمم التحدة بـ«وصايتها» على دول العالم ‏وبـ«انتدابها» للإشراف على العلاقات الثنائية بين هذه الدول.‏

ومصادرة إشراف الدول المستقلة ذات السيادة على علاقاتها الثنائية أمر كبير الخطورة في ‏العلاقات الدولية وتبادل العلاقات الدبلوماسية كان ويظل مظهراً من مظاهر ممارسة السيادة ‏لكل دولة من الدول. وعدم تبادل العلاقات الدبلوماسية ليس علامة وجود خلاف أو نزاع أو ‏حالة صراع من أي نوع كان.‏
وهنالك عشرات من الدول المستقلة لا تتبادل التمثيل الدبلوماسي لأسباب كثيرة دون وجود ‏خلافات أو صراعات أو توترات فيما بينها.‏

والسكوت على فرض الوصاية الأميركية على منظمة الأمم المتحدة وعلى خرق أسس القانون الدولي ‏وكذلك على العلاقات الثنائية بين دول العالم سيقود إلى تدمير هذه المنظمة الدولية التي ‏قامت بعد الحرب العالمية الثانية وبدء انهيار النظام الاستعماري في العالم بعد أن دمرت ‏الولايات المتحدة المجموعات والتكتلات التي قامت داخل الأمم المتحدة وخارجها للدفاع عن مصالح ‏الشعوب والدول وعن حريتها واستقلالها وسيادتها بشكل خاص. أين هي منظمة الدول غير ‏المنحازة؟ أين هي كتلة دول المؤتمر الإسلامي؟ بل أين هي كتلة الدول العربية في الأمم ‏المتحدة؟.‏
ألم تقض عليها سياسة الولايات المتحدة الإمبراطورية الحديثة؟.‏

إن الولايات المتحدة تحول منظمة الأمم المتحدة شيئاً فشيئاً إلى مكتب ملحق بوزارة الخارجية ‏الأميركية ينفذ أوامر المحافظين الجدد - الاستعماريين بامتياز - لا أحكام ميثاق الأمم المتحدة ‏والقانون الدولي - . وهذه طريقة ستقود منظمة الأمم المتحدة إلى الانهيار لاحقة بعصبة الأمم ‏المتحدة التي انهارت لسكوتها عن تحدي الدولة النازية الألمانية والدول الفاشية الأخرى التي ‏كانت تستعد لحرب أريد لها إعادة توزيع النفوذ والأسواق في العالم.‏

والذين يصفقون في لبنان لقرار و(توصية) مجلس الأمن الخاصة بالعلاقات والحدود بين لبنان ‏وسوريا يرتكبون خطأ كبيراً جداً. وهم يخطئون أيضاً عندما يشاركون إسرائيل في تكريم المندوب ‏الأميركي (البشع) وصديق إسرائيل الحميم بولتون وعندما يبدلون العدو بالصديق وينأون ‏بأنفسهم عن الصراع التاريخي الدائر بين حركة التحرر الوطني والاجتماعي العربية من جهة ‏وبين الشكل الجديد للاستعمار والإمبريالية الممثل بالولايات المتحدة الأميركية.‏

ولا يوجد سوري يرفض تطوير العلاقات مع لبنان والارتقاء بها إلى المستوى الأفضل المعروف في ‏العالم كما لا يوجد لبناني وطني واع يقبل بإعلان سوريا عدواً للبنان وبإعلان إسرائيل ‏صديقاً له.‏
أو يقبل بسياسة الاستفزاز والتحدي والمعاداة التي يمارسها بعض من في الحكم في مواجهة ‏سوريا.‏
إن المصلحة الحقيقية للبلدين والشعبين والدولتين لا تتمثل بالمعاداة والانزلاق إلى هاوية ‏الاستفزاز والتحدي والاستقواء بالعدو على الأخ والصديق. وفي ظل الأخوة والاحترام والاعتراف ‏المتبادل يمكن إيجاد الحلول لكل الخلافات المصطنعة وإنهاء كل التصرفات والانفعالات الخارجة عن ‏حدود المعقول والمقبول والأخوة والاحترام المتبادل للسيادة والاستقلال.