مجلس الأمن الدولي يأمر سوريا بإقامة علاقات دبلوماسية مع لبنان وترسيم الحدود معه!

أجل. لم لا؟ سيقول الكثيرون، إن لم يكن الكل. فهذه في النهاية من طبائع الأمور بين الدول ذات السيادة. ثم: ألا تقيم سوريا علاقات دبلوماسية مع أطراف تعتبر أجزاء عزيزة هي الأخرى من “سوريا الكبرى” التاريخية كالأردن والعراق وفلسطين؟ لماذا، إذاً، يجب أن يكون لبنان هو الاستثناء؟

منطق سليم، بل وقوي أيضاً.

لكن مهلاً. ثمة في هذا المنطق مفارقتان تاريخيتان كبريان قيد العمل:

الأولى، أن هذا “الحدث العادي” يسير في الاتجاه المعاكس تماماً لتاريخ عمره أكثر من 100 عام، حاول خلاله الشعبان السوري واللبناني إعادة توحيد البلدين التوأمين اللذين تم فصلهما اعتباطاً في سايكس- بيكو. ثم تكررت هذه المحاولات لاحقاً من خلال الحركات القومية العربية التي وسعت بيكار الوحدة لتشمل كل الأصقاع العربية.

طيلة هذه المرحلة الطويلة، كانت الوحدة هي الشعار الملائكي، وكان استقلال البلدين عن بعضهما البعض هو الانفصال الشيطاني. وأبطال هذا الشعار الوحدوي كانوا أساساً آباء وأجداد سنّة لبنان الحاليين الذين يقودون الآن مسيرة الاستقلال عن سوريا.

المفارقة الثانية هي أن مأسسة انفصال لبنان عن سوريا تسير في عكس اتجاه تاريخي آخر: العولمة. ففي عصر بدأ فيه مفهوم الدولة- الأمة يتآكل ويتداعى في بلد المنشأ (الغرب) تحت ضربات الرأسمالية في مرحلة تطورها العالمي الراهن، وتقوم على رفاته تكتلات إقليمية كبرى، نرى بيروت ودمشق تبدآن حيث تنتهي كل جهود الدول الأخرى: ترسيم الحدود بدل إزالتها؛ تشديد القيود على التجارة والتبادل الاقتصادي بدل إلغائها؛ والانطلاق نحو التفتت القومي بدل تكريس التوّحد الإقليمي- العالمي.

بالطبع، لسنا هنا في وارد الدفاع عن سياسات النظام السوري الذي أضاع على البلدين، وعلى كل العرب، فرصة ذهبية دامت ثلاثين عاماً كي يفعل في لبنان ما فعلته ألمانيا الغربية في ألمانيا الشرقية، فيكرس بذلك نهائياً وحدة البلدين. كما لن نتوقف عن إدانة الممارسات السلطوية والمافياوية لبعض أقطاب هذا النظام في “القطر الشقيق”.

بيد أن هذا شيء، وإدارة الظهر لوقائع الجغرافيا والتاريخ ولحقائق العولمة، شيء آخر مختلف تماماً. والأطراف اللبنانية، وعلى رأسها تلك التي تتخندق الآن داخل الجماعة السنيّة (التي نقلتها قوى معروفة خلال السنوات الأخيرة من الانتماء للأمة إلى الانتماء للطائفة)، لا تعمل من أجل الانفصال عن النظام السوري كما تدعّي، بل للانفصال عن سوريا. فالأنظمة السياسية تزول، لكن العلاقات الدبلوماسية الفاصلة والانفصالية تبقى!

ثم لا يجب أن ننسى هنا شيئاً آخر أخطر: القوى اللبنانية المطالبة ب “الاستقلال” عن سوريا، تفعل ذلك وهي تستند إلى قوى دولية عاتية هي نفسها، بالمناسبة، الدول التي عملت في السابق على تفتيت المنطقة العربية بعد انهيار الدولة العثمانية، وتعمل الآن على تفتيت هذا التفتيت، لكن هذه المرة إلى شظايا طائفية ومذهبية وإثنية.

فهل بات مجلس الأمن، لا مجالس الأمة العربية، هي المرجعية الشرعية لهؤلاء؟ وهل يظن فؤاد السنيورة ووليد جنبلاط وأبطال الاستقلال في 14 آذار، أن هذه الشرعية الدولية نفسها التي تخرج سوريا من لبنان اليوم، ستمنع “إسرائيل” من الحلول مكانها غداً، أو ستحول دون انقلاب هذا البلد مجدداً إلى “مستعمرة قناصل” كما كان في القرن التاسع عشر؟

كنا، ولا نزال، نعارض الوحدات الاندماجية “الرومانسية” بين البلدان العربية، ونؤيد الاتحادات الفيدرالية - الديمقراطية الأقرب إلى العقل والقلب. لكننا لا نستطيع أن نكون مع الحركات الانفصالية، مهما كانت التبريرات والتظلمات.

والأطراف اللبنانية الراهنة المطالبة بالعلاقات الدبلوماسية مع سوريا، ليست شيئاً آخر غير ذلك: مجرد حركات انفصالية خطرة تسير في عكس مسيرة التاريخ ومسار العصر.