يُنعشك في العاصمة الفرنسية، مناخ الحرية الذي يحيط بك، يفتح العقول، يطلقها، والقلوب كذلك تنفتح بعضها على البعض فلا تبقى المكنونات هي أيضاً أسيرة ككل شيء تأسره قوانين "الطوارئ" في عالمنا العربي!... وما أدراك أية طوارئ، لا من أين تطرأ ولا عند أية حدودٍ تتوقّف... فتزول أمامها إنسانية الإنسان الطبيعية.

والحرية، في مناخها، متعددة الأبعاد والاتجاهات... تطلق الماضي القريب والبعيد، فإذا بعِبَر هذا الماضي تعود ذكريات وأمثولات.

تشاهد البطريرك صفير، وسائر البطاركة، فتتذكّر الأسلاف الذين حجّوا الى باريس هذه، أيام مؤتمر السلام، بل منذ ما قبله في القرن التاسع عشر طلباً لـ"الأنوار" يستهدون منها ما يؤسّسون عليه نهضة فكرية تجوهر حركاتنا التحررية والاستقلالية بل الوحدوية لكن تخلصاً من سجن الامبراطورية العثمانية واستبدادها و"طبائع الاستبداد" (أينك يا عبد الرحمن الكواكبي).

وفي "مؤتمر فرساي" عام 1919 الى 1920 لم يكن الأسلاف يظنون ان طلب الاستقلال من القانون الدولي الذي كان يولد من الثورة على الحروب، ليصنع عالماً جديداً وقانوناً دولياً مبنياً على حق الشعوب المعذبة في تقرير مصيرها...

لم يكن الأسلاف ليظنوا يوما أننا سنرث – عوض "الأنوار" وفكرها الثوري القومي والإنساني وثقافة الحرية التي كنا بدأنا نضع مواثيقها – سنرث الآن ما كان يسمّيه جنبلاط (كمال بك ثم وليد) "السجن العربي الكبير"... بديل السجن الامبراطوري العثماني الذي حطّم الأسلاف أسواره وغسلوا أرضه، أرض الوطن، بدماء شهاداتهم الزكية!

أية عدالة في التاريخ نستغفر؟

ان يكون البطريرك الحويك قد جاء باريس، من قرن كامل، باسم لبنان يستودع الامم استقلال الوطن الصغير وسيادته وحدوده امانة... ثم يأتي خليفته الى العاصمة ذاتها يصرخ ما معناه أن الانظمة التي ظننا وظنّ اخواننا أننا بنيناها معاً، هياكل للحقوق والحريات، عاد حكامها الذين ورثوا السيادة إلى حين يمزقون حجب هذه السيادة ويدكّون هياكل الاستقلالات ليستلحفوا جاهلية العصبيات، يعيدوننا بها الى شريعة الغاب باسم عقائديات "وطنيات" باليات تدّعي أنها هي الأعظم من الشرعية الاممية التي وقعوا تعاقدها باسم السلام وحقناً لدماء تعود البربريات تهرقها في حروب مجنونة مستحيلة الانتصارات!

وهل هذه الجاهلية "الرَجعية - التوليدية" هي ما نريد ارثاً لما ناضل الاسلاف من اجله من مُثل عليا التقى عند تخومها البطريرك الحويك والأمير "الشريف" فيصل بن الحسين، منادياً بمملكة عربية، والامير شكيب ارسلان (جدّ وليد جنبلاط) الذي ابتكر للهوية العربية عقيدتها القومية التحررية ذات المحتوى الاسلامي المنفتح على ارحب آفاق العصرنة بل العولمة؟

وتكون حصيلة قرن العذاب أن يقف بطريرك آخر، ومقدسي، ليعلن ان لبنان مهدد الوجود [ونحن نعرف، مع بطريرك انطاكية اغناطيوس، ان "لبنان والقدس صنوان"].

المطلوب الآن ان يرتدع هراطقة آخر زمان، هراطقة القومية والدين في آن واحد...

وأن يقوم من يهزهم في قبورهم التي يكلّسون ليعلن لهم ان العالم بأسره، من الصين مروراً بالروسيا وصولا الى أمازون البرازيل، تحركه الثورات وتيارات التحضّر المتجوهر بالحريات...

وأن لا مكان في هذا العالم المصمم على السلام الكوزمي – وعلى بلوغ المريخ بعد ربع قرن، وبلسان عالم لبناني "تعولم"! – لمن لا يزال يحسب الانسان ناقة في بادية تخومها تتصاغر مع أحلام الاستبداد، او ان خاتمة المطاف هي الاستقرار، ولو كان استنقاعاً في السجون والقبور!