لعل أبرز سمة تميز الأوساط الاستخباراتية الأميركية, سعتها وتشعب أقسامها وإداراتها. فهناك أخطبوط من ست عشرة وكالة استخباراتية مستقلة عن بعضها بعضاً, خصصت لها ميزانية إجمالية مقدارها 44 مليار دولار قابلة للزيادة باستمرار. ومن السمات الأخرى المميزة للجاسوسية الأميركية أنها ليست على ذاك القدر من السرية والكتمان. فما أكثر كبار الجواسيس والعملاء الاستخباراتيين الحاليين والسابقين, الذين أدلوا مؤخراً بفيض من التصريحات الصحفية, ونشروا سلسلة من المقالات والتعليقات في أوائل شهر مايو الجاري, تناولت جميعها مشكلات العمل الاستخباراتي الأميركي, على خلفية طرد بورتر جوس من منصبه كمدير لوكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه", وهو المنصب الذي لم يشغله سوى ثمانية عشر شهراً فحسب, لكي يرشح بعده مايكل هايدن الجنرال في القوات الجوية خلفاً له في إدارة الوكالة.

يذكر أن ترشيح الرئيس بوش لجون نيجروبونتي السفير الأميركي السابق في العراق لتولي إدارة وكالة الأمن القومي في وقت سابق, كان قد أثار ضجة وزوبعة واسعة النطاق في أوساط الرأي العام الأميركي وفي الوسط الاستخباراتي نفسه. وبموجب ذلك الترشيح فقد ألقيت على عاتق نيجروبونتي مهمة جد عسيرة, تحتم عليه إدارة الست عشرة وكالة استخباراتية قومية, ورئاسة طاقم موظفين مؤلف من حوالى 1500 فرد, بينما خصصت لكل هذه المهمة الجبارة ميزانية قدرها مليار واحد من الدولارات.

وإذا كان غالبية سكان العالم قد سمعت بوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وشقيقتها وكالة الاستخبارات الدفاعية "دي آي إيه", فما ذلك إلا لشهرتهما, دون أن يلغي ذلك وجود عدد آخر شهير من هذه الأجهزة الاستخباراتية, مثل مكتب الاستطلاعات القومي ووكالة الاستخبارات الجيوفضائية القومية, علماً بأن مهمة هذه الأخيرة, الرقابة الاستخباراتية اللصيقة على العالم بأسره, عن طريق استخدام تقنية الأقمار الاصطناعية. ولعل كبرى هذه الوكالات والأجهزة, وكالة الأمن القومي "ناسا" التي تدير برنامجاً عالمياً للتصنت على الاتصالات والمكالمات الدولية, سواء تلك المنسوبة إلى الأعداء أم الأصدقاء. وقد أثارت هذه الوكالة مؤخراً موجة واسعة من الجدل العام الأميركي, عندما انكشف أمر مراجعتها ورقابتها للتسجيلات الهاتفية لعشرات الملايين من المواطنين, تحت ذريعة البحث عن أنماط مكالمات متكررة للأشخاص المشتبه بهم, عساها تكشف عن مخططات ونوايا إرهابية لا تزال طي الكتمان. هذا ومن رأي منتقدي هذا البرنامج الاستخباراتي أنه يمثل انتهاكاً صارخاً للتعديل الرابع في الدستور الأميركي, الذي ينص على "حق المواطنين في التمتع بأمن أشخاصهم وبيوتهم ومستنداتهم وممتلكاتهم, وحمايتها ضد أية إجراءات تفتيش أو اعتقال لا مبرر لها".

وإذا كانت ضخامة أجهزة الاستخبارات الأميركية تعد إحدى سماتها الرئيسية, فإن من أبرز سماتها كذلك اضطرابها وضعف أدائها. ولقد تلطخت سمعتها أيما تلطيخ, بسبب عجزها عن تجنيب أميركا هجمات الحادي عشر من سبتمبر التي شنها عليها تنظيم "القاعدة", وكذلك بسبب الخطأ الاستخباراتي الفادح فيما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة, وما قيل عن علاقات ملفقة, ربطت ما بين صدام حسين وتنظيم "القاعدة". وعلى الرغم من أن هاتين الذريعتين شكلتا المسوغ الرئيسي لشن الحرب على العراق, إلا أن الأيام كشفت زيفهما. والغريب -رغم كارثية هذين الخطأين الفادحين- أن الولايات المتحدة لم تجرِ تحقيقاً شاملاً للكشف عن مصدر تزوير تلك المعلومات التي شنت بسببها الحرب على العراق!

وإلى أن يجرى ذلك التحقيق, فإن معظم الشكوك تحوم حول "مكتب الخطط الخاصة" بوزارة الدفاع, الذي يتولى إدارته محافظون جدد أشداء موالون لإسرائيل, على رأسهم "بول وولفوفيتز" الذي كان نائباً لوزير الدفاع وقتئذ, ونائبه دوجلاس فيث. وكانت الفكرة هي تجاوز وكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الخارجية الأميركية والالتفاف عليهما. وعلى الرغم من مغادرة كل من "بول وولفوفيتز" ونائبه دوجلاس فيث لوزارة الدفاع, إلا أن حدة التنافس ما بين البنتاجون التي تسيطر على نسبة 80 في المئة من الميزانية الاستخباراتية, والوكالات والأجهزة المدنية العاملة في المجال, تشكل سمة رئيسية ثابتة من سمات المشهد الاستخباراتي الأميركي.

على أن السؤال الجوهري المطروح بإلحاح اليوم هو عما إذا كانت الاستخبارات الأميركية المعنية بإيران الآن, أفضل حالاً وأداءً مما كانت عليه المعلومات الاستخباراتية التي سبقت الغزو على العراق؟ ففي ظل انقطاع العلاقات الدبلوماسية مع طهران, لجأت واشنطن لاتباع خطة استخباراتية بديلة, عينت لها من الجواسيس من يستطيعون التقاط المعلومات من مصادرها داخل إيران. وكما نرى فقد استبد الهوس بواشنطن حتى أصبحت تلوك ليل نهار الحديث المتكرر عن المخاطر الأمنية للبرنامج النووي الإيراني. وأصبحت النغمة المفضلة لواشنطن هي وصف كل من إيران ورئيسها محمود أحمدي نجاد, بأنهما أكبر تحدٍّ وخطر على الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها. ولكن السؤال هو: هل تستند هذه الادعاءات على معلومات أكيدة ملموسة, أم أنها مجرد ترهات وتلفيقات تبرع بها أصدقاء إسرائيل وحلفاؤها من العازمين على كسر شوكة كل منافسيها الإقليميين وإخلاء الجو لهيمنتها الإقليمية؟

ومن السمات البارزة في المشهد الاستخباراتي الأميركي, اضمحلال وكالة "سي آي إيه" وأفول نجمها. ومن مظاهر ذلك, أن مديرها لم يعد مسؤولاً عن رفع تقارير يومية أو شبه يومية إلى الرئيس, مثلما جرت العادة سابقاً. فقد أصبحت هذه المهمة من شأن جون نيجروبونتي الآن. ولكن الملفت للنظر والاهتمام أن نيجروبونتي نفسه, يواجه منافسة حامية من قبل وكالة "دي آي إيه" التابعة للبنتاجون, وكذلك وكالة "قيادة العمليات الخاصة" التابعة لدونالد رامسفيلد هي الأخرى, والتي تقوم بمهمات التجسس الدولي وتتبع الإرهابيين وغيرهما الكثير من المهام التجسسية السرية. هذا ويقع القسط الأكبر من هذا التوسع الدفاعي في الشؤون الاستخباراتية, تحت سيطرة ستيفن كامبون, الذراع الأيمن لدونالد رامسفيلد وأقرب مساعديه, علماً بأنه يتولى منصب وكيل وزارة الدفاع لاستخبارات ما وراء البحار. ونظراً لسطوته ونفوذه الواسعين, فقد اشتهر كامبون بلقب "قيصر استخبارات البنتاجون" أو عرّابها مجازاً! ويبقى السؤال الكبير, حول مدى قدرة الوسط الاستخباراتي الأميركي على تجاوز صراعاته ومنافساته وحروبه الداخلية هذه, ومدى قدرته على حماية جسده من اختراقات وتسللات تيارات وأجنحة متباينة مصطرعة داخله, لكل منها مصالحها وأجندتها الخاصة؟