انتهى الأمر، ولم يعد في الإمكان تصديق أي طرف فلسطيني. الجميع يقول بالوحدة الوطنية وحقن الدماء ومصلحة الشعب، والجميع يلعب اليوم اللعبة الجهنمية البغيضة، مرتكباً كل الأخطاء والطعنات التي ستجعل من الذهاب الى حرب أهلية خياراً لا عودة عنه.

من الاشتباكات والتوترات التي اصبحت يومية، الى تبادل التهديدات ووضع لوائح الاغتيالات (وكأنها لوائح شاؤول موفاز)، الى تفجير مقر الاستخبارات بعد يوم من الاعلان عن مصادرة أموال لـ «حماس»، فضلاً عن استمرار اشكالية الصلاحيات بين الرئاسة والحكومة وتفاقمها مع تشكيل الوحدة الخاصة التابعة لوزير الداخلية... كل ذلك يشي بتغذية الفوضى واحتدام الفئوية وشحذ الصراعات استعداداً للاحتكام الى قوة السلاح، وكأن الاحتلال زال ليتفرغ «أبطال الاستقلال والتحرير» لبناء مواقعهم في «الدولة الوليدة» ولفرض رؤيتهم للنظام الجديد.

الحرب الأهلية «خط أحمر»، وفقاً للرئيس محمود عباس، وكذلك بالنسبة الى بعض تصريحات قادة «حماس». لكن هذه الحرب تشكل جزءاً ضرورياً لا يتجزأ من «خطة الفصل» التي بدأت اسرائيل تطبيقها بالانسحاب من غزة، ايام ارييل شارون، ويستعد وريثه ايهود اولمرت لاستكمالها بعد تطويرها لتصبح «خطة الانطواء». يعلم المعنيون، في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، ان هذه الخطة لا تؤسس لأي سلام أو لأي حل نهائي بالتفاوض، وانما هي اجراءات مفروضة لتكريس ثمار الاحتلال ومكافأته. إنها سرقة مكررة ومجددة للأرض، ولتمرير هذه السرقة لا بد من أمرين: الأول تغطية أميركية، وهي مضمونة في ظل الوضع البائس الذي بلغته إدارة جورج بوش. والثاني إشغال أصحاب الارض والحق بالتقاتل في ما بينهم، بل ادخالهم في دوامة خلافات وانقسامات لن تنتهي إلا عندما يصبحون جاهزين للقبول بأن الحل الوحيد لبلادهم هو في ان تتكنتن وتتفتت ليعيشوا في مناطق متفرقة تفتقر الى كل مقومات «الدولة».

يريد اصحاب القرار الايحاء بأن الوضع لا يزال قابلاً للمعالجة. ومع الموافقة معهم على تمنيات كهذه، إلا ان الوضع على الأرض يزداد سوءاً وخطراً، يوماً بعد يوم. ولم يوضح أحد منهم لماذا يخرج الفتحويون والحماسيون من اجتماعاتهم بتصريحات ارتياح وتفاؤل، ولماذا يفسد الوضع قبل ان ينسى الناس ما سمعوه منهم. كذلك لم يقل أحد اين اصبح مشروع الحوار، ولماذا يتلكأ، ومن يعرقله ولأي أغراض. في ايام الرئيس الراحل ياسر عرفات شارفت الأوضاع مرات عدة حد الاقتتال الأهلي، لكن المعالجات كانت تتوصل بسرعة الى ضبط الأمور والحؤول دون انفجارها. وغداة وفاة عرفات شاعت التوقعات بأن الصراعات الداخلية ستفتك بحركة «فتح»، وقد حصل، وبأن الساحة الفلسطينية باتت تفتقد المرجعية التي تمنع حصول حرب أهلية، وهو ما يتأكد اليوم. لم يكن أحد يتوقع آنذاك ان تفوز «حماس» في الانتخابات أو أن ترضى بلعب لعبة السلطة المنبثقة من اتفاقات أوسلو التي ترفضها وتعارضها.

يخشى أن يكون «الخط الأحمر» قد بات وراء الجميع. الأخطر ان تكون الأطراف الخارجية، عربية وغير عربية، مستسلمة لتحبيذ منطق الحرب الأهلية وتركها تتفاعل انتظاراً لما يمكن أن يتأتى منها. لكن هذه الأطراف لا تستطيع ان تعفي نفسها من مسؤولية اقتياد الفلسطينيين الى التقاتل، فهي التي ارتضت سياسة الإقصاء والتجويع، بعدما ارتضت الانقياد الى الخطة الاسرائيلية، والآن ترتضي خيار الأفق المسدود بلا مفاوضات (فلسطينية - اسرائيلية) ولا مبادرة دولية، خصوصاً أن الإدارة الأميركية عادت عملياً الى السياسة التي افتتحت بها عهد بوش، أي الى عدم الاهتمام بمسألة الشرق الأوسط وعدم تبني أي رؤية جديدة فيها، سواء بحجة عدم إمكان التعامل مع «اللاشريك» الفلسطيني أو - وهذا الأرجح - لعدم إزعاج اسرائيل في اندفاعها الى «الانطواء». وهكذا، فما على الفلسطينيين سوى أن يتولوا بأنفسهم سياسات الاغتيال والتخريب والتدمير، لتتمكن اسرائيل من تدبير انطوائها من دون ازعاجات.