ظن الرئيس الراحل الياس سركيس بعد "الحل العربي" لحرب السنتين (1975-1976) الذي حظي بنوع من المباركة الدولية ان في امكانه الافادة من هذه الرعاية لانهاء الحرب وللبدء في اعادة بناء لبنان الدولة والمؤسسات والعيش المشترك. لكنه مع مرور سنوات ولايته ادرك ان ظنه لم يكن في محله وخصوصا بعد زيارة الرئيس المصري الراحل انور السادات القدس لان بلاده استمرت ساحة صراع بين اسرائيل والعرب من جهة وبين العرب انفسهم وبين الدول الكبرى او العظمى. وادرك ايضا ان الدور الوحيد الذي يستطيع ان يقوم به هو ادارة الازمة والحروب بحيث تكون تكلفتها على الشعب اللبناني اقل.

وبعد الاجتياح الاسرائيلي الواسع للبنان عام 1982 ظنت جهات لبنانية كثيرة ان الحل لحروب لبنان ومشكلاته صار في متناول اليد بعد خسارة منظمة التحرير الفلسطينية عسكريا في لبنان ثم خروجها منه وبعد انكفاء الجيش السوري الى مناطق اخرى. لكنها ادركت وبعد وقت قصير ان فصل قضية لبنان عن ازمة المنطقة من المستحيلات، اذ استمر الصراع المحلي – الاقليمي – الدولي فيه وعليه وبدا أن لا امل في حل لقضيته بمعزل عن حل ما للازمة الاكبر.

وبعد التمديد القسري لرئيس الجمهورية العماد اميل لحود اواخر صيف 2004 ثم الاغتيالات التي اعقبته ومبادرة المجتمع الدولي الى وضع يده على الملف اللبناني ونجاحه في "اقناع" سوريا بسحب وجودها العسكري من اراضيه، بعد كل ذلك ظن اللبنانيون ان امكان فصل قضيتهم عن ازمة المنطقة صار واقعا. لكن ظنهم هذا خاب وخصوصا بعد الانقسام الداخلي الحاد الذي منع انجاز التغيير المؤمل فيه وبعد ثبوت استمرار النفوذ السوري عميقا في لبنان وبعد تعمق النفوذ الايراني وبعد تحول البلاد من جديد ساحة مواجهة حارة بين المجتمع الدولي بزعامة اميركا من جهة وبين ايران الاسلامية وسوريا من جهة اخرى.

هل يعني الوصف المشار اليه للمرحلة الراهنة ان مرحلة التغيير قد انتهت وان المحاولة الثالثة لفصل قضية لبنان عن ازمة المنطقة قد فشلت؟

لا يمكن قول ذلك، لان محاولة استكمال التغيير لا تزال مستمرة بوسائل عدة منها الحوار الداخلي الجاري الذي حقق حتى الآن نجاحات مهمة وان نظرية ولان محاولة الفصل لا يزال العمل في سبيلها مستمر. لكن في الوقت نفسه لا يمكن الجزم بان التغيير والفصل صارا حقيقتين راهنتين كما لا يمكن الجزم بان الوصول اليهما صار حتميا. ذلك ان الاهتمام الدولي بلبنان على اتساعه لم يقرر اصحابه استعمال كل ما في ايديهم من وسائل بما في ذلك القوة لانقاذ لبنان ربما لأن الدول الكبرى والعظمى تبقى مقيدة باعتبارات وبمصالح وبمخاوف تمنعها من اطلاق العنان لسياساتها وطموحاتها. وربما ايضا لان اصرار اصحاب الاهتمام المذكور فرضوا على هؤلاء اعادة الحسابات وخصوصا بعد الربط المحكم الذي نجحوا في اقامته بين الوضع اللبناني وبين الوضعين السوري والايراني فضلا عن الوضع العراقي. وفرضوا عليهم ايضا اعادة النظر ليس في الاهداف وانما في الوسائل وربما بكل ما له علاقة بالزمن اي بالمهل الزمنية لتحقيقها.

كيف يجب ان يتصرف اللبنانيون في ظل وضع "مرجرج" كهذا؟

الجواب عن هذا السؤال ليس سهلا، ذلك ان الفريقين الاساسيين في الصراع الداخلي يحاولان وسيستمران في محاولة حسم امور الداخل كل منهما لمصلحته. ولان حلفاء كل منهما الاقليميين والدوليين سيحاولون وسيستمرون في محاولة مد جماعاتهم بكل اسباب الحماية ووسائل الدعم سواء لمنع الانهيار او لتوفير فرص الانتصار. وفي حال كهذه يعتقد كثيرون من اللبنانيين ومن المعنيين بلبنان من خارج على تناقضهم ان على فريق 14 آذار و8 آذار ان يقتنعا اولا بانهما ليسا الفريقين الاقوى في الصراع الدائر على ارضهما وبواسطتهما. وعليهما ان "يبدّيا" مصلحة وطنهما على كل مصلحة اخرى رغم معرفة الجميع ان حرية الحركة عند البعض في كل منهما ليست كبيرة وان التهور قد يكون سمة البعض في كل منهما. وهذا يعني ان على الفريقين المذكورين ان يستمرا في محاولة البحث عن حلول لمشكلات الداخل وأن يستمرا في تلافي تحويل التصعيد السياسي تصعيدا امنيا وان يمنعا حلفاءهما من استدراجهما الى مواقف بل الى تصرفات او الى تغطية تصرفات لا تأخذ لبنان الا الى الانفجار والتفجر. ويعني ايضا ان عليهما ان يُمِرّا المرحلة الصعبة الراهنة التي قد تطول سنة او سنتين او اكثر من دون خسائر بنيوية على البلاد اي ان ينتظرا "إنحسام" الصراع الاقليمي – الدائر بجزء منه على ارضهما من دون ان يتخليا عن سياساتهما وارتباطاتهما ولكن من دون السماح لهذه الاخيرة بدفعهما الى الانتحار ومعهم الوطن. فهل يفعلون؟