يدعيوت أحرونوت

موشيه ألعاد
( شغل سابقا مناصب رفيعة في المناطق الفلسطينية المحتلة، باحث حالي في شؤون المجتمع الفلسطيني)

تاريخ المجتمع الفلسطيني مكون من مراحل هدوء وروتين قليلة، ومن "مفترقات طرق" كثيرة. والأجنبي الذي يجد نفسه عالقا في الشرق الأوسط يشعر عندما ينظر من حوله بالدهشة نظرا لكيفية نجاح هذا المجتمع في البقاء سنوات عديدة من دون أن تمسه وصمة الحرب الأهلية، التي تميز الدول العربية.
ثمة من يفسر نجاح المجتمع في المناطق الفلسطينية بتجنب "الفتنة"، الحرب الأهلية، في أن هؤلاء السكان كانوا يرزحون لسنين طويلة تحت سيطرة حكام اجانب: فهم كانوا تحت حكم الامبراطورية العثمانية، انتقلوا إلى ظلم وجور الانتداب البريطاني، خبروا نظام الحرمان الاردني، وفي النهاية جربوا أيضا الاحتلال الإسرائيلي. هذه الفترات الصعبة أوجدت في اوساطهم مشاعر خاصة من الوحدة والتضامن المتبادل، من دون انشقاق، وعززتهم كمجتمع. ويمكن بالطبع القول أنه نظرا لوقوعهم تحت إمرة سلطة أجنبية طوال هذه الفترات الطويلة، فقد شكل هذا الأمر بالنسبة إليهم تجربة تأسيسية ساعدتهم في التغلب على أزمات سياسية داخلية، وعلى فترات الحضيض الاجتماعي ـ الاقتصادي، وحالت دون انزلاقهم نحو حرب اهلية.
طوال العقود الأربعة للحكم العسكري الإسرائيلي في المناطق الفلسطينية، أثبتت الوحدة الفلسطينية نفسها جيدا. وإذا كان ثمة من توقع، على سبيل المثال، أن يقاتل سكان جبل الخليل، ضد اخوتهم سكان جبال السامرة ( شمال الضفة) من أجل "الهدف السامي" الذي وضعهم أمامه رئيس الحكومة ليفي أشكول ـ تعيين رئيس بلدية الخليل محمد علي جعبري رئيسا لسلطة الحكم الذاتي في الضفة ـ فقد أُصيب بخيبة أمل. ذلك أن النتيجة كانت معاكسة تحديدا: أدت المبادرة الإسرائيلية إلى مزيد من الوحدة المحلية، لا بل أنها أدت إلى تطرف إضافي من جانب سكان المناطق الفلسطينية تجاه إسرائيل.
هذا ما حصل أيضا في غزة نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، عندما أملت إسرائيل ـ بسذاجة كبيرة ـ ان يشكل أفراد "الجماعة الاسلامية"، أي حماس اليوم، ثقلا موازيا لمنظمة التحرير الفلسطينية وللشيوعيين المعادين لإسرائيل، في حال حظوا بالرعاية فقط على يد الحكم العسكري. فـ"الجماعة المتدينة التي أرادت في الإجمال مسجدا للصلاة فيه" حصلت فعلا على ثمن بخس مقابل شيء ثمين، لكنها لم توافق على خيانة إخوتها.
حتى عندما أمر وزير الدفاع، أرييل شارون، إقامة "روابط القرى" المريحة لإسرائيل، بهدف "تتويجها" على الضفة الغربية، كان ثمة إسرائيليون ممن أملوا حصول مواجهة وصدام حتمي بين الوسط القروي المحروم وبين النخب المدينية المتعالية. وقد اعتقد هؤلاء أنه في نهاية تلك المواجهة ستتمكن إسرائيل من تسجيل انجاز كبير لصالحها ـ اقامة حكم فلسطيني مريح ومتعاون. بيد أن إقامة "الروابط" تسببت بالضبط بحصول عكس المأمول: لم يُدفعوا إلى هامش المجتمع الفلسطيني فحسب، بل تمت تصفية أعضاء هذه الروابط ومصادرة أملاكهم فحسب، بل أنه من الناحية السياسية، وبفضل المسعى الإسرائيلي الفاشل، تحولت منظمة التحرير الفلسطينية إلى هيئة أكثر سيطرة وسط السكان الفلسطينيين، وعُبدت طريقها لقيادة هذه المنظمة في الخارج أيضا.
لكن ما يحصل اليوم في اراضي السلطة الفلسطينية يختلف جوهريا عن السابق. فالحاكم ـ العدو الصهيوني الذي كان مسؤولا عن الوحدة الداخلية طيلة تلك السنين ـ لم يعد موجودا. والصراع هذه المرة داخلي ـ فلسطيني بشأن من يتحكم بمصير ثلاثة ملايين ونصف فلسطيني. إنه صراع بخصوص السيطرة على مليارات الدولارات من الدعم الدولي، وهو أيضا صراع على الزعامة في قيادة المواجهة السياسية والعسكرية ضد الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل.
كما أن الأصولية الفلسطينية، التي كانت وسيلة لمحاربة العدو الخارجي، وصلت إلى حافة الهاوية. والمجتمع في الضفة والقطاع اجتاز مسافة طويلة من الطريق السياسية المتعرجة: من اللامبالاة الجلية عند بداية الاحتلال الإسرائيلي، مرورا بتأييد الشيوعية المرنة وبعد ذلك الشيوعية الماركسية ـ اللينينية، عبر فكرة الناصرية والبعث وصولا إلى التمأسس وراء الظهر الواسع لمنظمة التحرير، وانتهاء بتأييد غير متوقع للتطرف الاسلامي الأصولي بصيغة حماس.
أحداث الأشهر الأخيرة منذ تولي حماس السلطة ـ التهديدات، معارك الشوارع، التصفيات المتبادلة والاتهامات بالتعاون مع إسرائيل ـ تشير إلى اتساع الشرخ الاجتماعي داخل المجتمع الفلسطيني. وعليه فإن المحاولة الخاصة بقيادة السكان عبر رأسين متوازيين، الأول مدني ـ علماني، والثاني ديني ـ متطرف، منيت بفشل ذريع، مما سيضع الجمهور مجددا أمام مفترق طرق جديد، لكن غير معروف هذه المرة.
رويدا رويدا يُدفع الفلسطينيون نحو"النموذج الصومالي" حيث تجري حرب أهلية في كل حي. وسيكون الشارع هو حلبة الصراع الرئيسية في السلطة. وهذه المرة أيضا يُطرح الموضوع وفق صيغة "غزة أولا"، فمن يسيطر على شوارع غزة، سيسيطر أيضا على نابلس وأريحا.