في سورية أيضا ثمة من يدعو إلى «سورية أولا»، وإن كانت الدعوة هذه غير متبناة حكوميا ولا هي ذات شعبية في أوساط المعارضة. «سورية أولا» هو الشعار الأساسي لتنظيم هامشي تشكل عام 2005، يتعهد بـ»نشر الفكر الليبرالي ومقاومة المعارضة الشمولية». وهو أيضا منطق تفكير عدد من الكتاب والناشطين ممن يشكل هذا الشعار المنطق الموضوعي لتفكيرهم وعملهم، حتى لو لم يتبنوه صراحة. ورغم أن تيار «سورية أولا» لا يزال ضعيفا، فليس لضعفه أن يخفي ميلا ثابتا ومضطردا لمنح مزيد من الانشغال بالكيان السوري، ومزيدا من إدراك تعدد سورية وتعذر ذوبانها في عروبة العقيدة البعثية دون باق. وفي أوساط المثقفين وأكثر نشطاء المعارضة يعرج الاهتمام بالشؤون السورية قليلا على الشؤون العربية هذه الأيام. وحيث يفعل فإنه يسلك ممرا جيوسياسيا أكثر مما هو ثقافي ووجداني، وتحليلي أكثر مما هو عملي. باختصار، الاهتمام بالشؤون العربية يكاد اليوم لا يمر بالقومية العربية.

ويسير «تأويل» سورية جنبا إلى جنب مع إدراك متنام لتعددها الذاتي، وتنبه أوسع لحقيقة أن العروبة جزء من سورية، خلافا للنظرة القومية التقليدية التي كانت لا ترى إلا أن سورية جزء من العروبة، جزء لا يتجزأ ولا يتعدد. غير أننا لا نصادف نقاشا جديا حول قضايا الهوية والعروبة والسورية في سورية، البلد الذي كان بالفعل مهدا للعروبة. عقب صدور «إعلان دمشق» أخذ متحفظون عليه استخدامه تعبير «المنظومة العربية» بدلا من الأمة العربية أو الوطن العربي، لكنهم لم يفتحوا نقاشا ولم يقترحوا فكرة جديدة؛ اكتفوا بإشباع حاجاتهم السجالية. ورغم أن «إعلان دمشق» عبر عن حساسية سياسية أكثر واقعية، فإنه لم يجر في أوساطه أو حوله أي نقاش حول تكوين سورية والهوية الوطنية.

إن نقاشا من هذا النوع أمر لا غنى عنه من أجل توفير تغطية فكرية لتغيرات موضوعية لا ريب فيها، ولا رجعة عنها. أول التغيرات هذه تنامي المطالب الديموقراطية، وتحول التعدد الاجتماعي والثقافي والديني من قيمة سلبية يستحسن التكتم عليها أو واقعة محايدة قيميا إلى قيمة إيجابية يتعين إبرازها وإعادة بناء الحياة السياسية حولها؛ ثانيها، ازدياد السكان وبروز كتل بشرية جاذبة تعد بمليون ومليونين، تعي اختلافها بلغة الثقافة والإثنية، وتعي وحدتها في إطار الكيان القائم؛ ثالثها، اقتران عروبة الثلث الأخير من القرن العشرين بمنعكسات شرطية منفرة كالهزائم العسكرية والفشل التنموي والطغيان، ومعاناتها من نزف معنوي وسياسي خطير لعجز القيمين عليها عن إدانة جرائم موصوفة ارتكبت باسمها. وقد نضيف، رابعا، أن لكثافة الحضور الأميركي في المنطقة العربية منذ ثلاثة عقود، وأكثر منذ عقد ونصف مفعولا مضعفا للفكرة القومية العربية، وفي السنوات الخمس الأخيرة أمسى ذاك الحضور مثيرا للمخاوف على مصير الدول القائمة ذاتها، ما يدفع إلى التمسك بها. كانت نتيجة ذلك الهجرة المادية من البلاد العربية حيث أمكن، أو الهجرة المعنوية من العروبة نحو الإسلام أو الهويات الطائفية أو، بدرجة أقل، الهويات «القطرية». تتضافر هذه التغيرات على إضعاف التماهي العربي، الآلية العاملة في خدمة الهوية العربية. فالهوية نتاج عملية تماهٍ ديناميكية وليست معطى طبيعيا. بالمقابل، يعمل العنصران الأولان، نمو المطالب الديموقراطية ومفاعيل ازدياد السكان على تزكية الكيانات القطرية القائمة. سورية ليست استثناء.

النقاش المفقود حول التغيرات المذكورة مفقود أيضا حول صيغتين من ابتسار الهوية الوطنية: صيغة «العروبة أولا» التي تختزل سورية في عروبة غير تعاقدية لا تقبل نقاشا، وتستخدم كأداة تعبوية وتشريعية لسلطة غير مقيدة، وصيغة «سورية أولا» التي لا تزال هامشية، لكنها تستفيد من حالة الفراغ الفكري القائمة لتحتل مواقع جديدة. تشترك الصيغتان في موقف عدمي، حيال التعدد الإثني والديني والمذهبي في حالة «العروبة أولا»، أو العروبة المجردة والمطلقة؛ وحيال العروبة ذاتها في حالة «سورية أولا»، السورية المجردة والمطلقة بدورها. لكن وطنية سورية معادية للعروبة لا يمكن أن تكون ديموقراطية أو دستورية، تماما كما كان يتعذر على عروبة تنكر تعددها الذاتي أن تكون ديموقراطية. وكما انفصلت العروبة المجردة هذه عن العرب الملموسين وحياتهم وحقوقهم وحرياتهم، وكما خدمت كأداة معدومة الشخصية بيد سلطات لا ترجع إليهم ولا تهتم برأيهم، فليس ثمة ما يشير إلى أن العقيدة السورية المطلقة، غير التعاقدية هي الأخرى، لن تكون أداة سلطة منفصلة عن السوريين الملموسين ومطالبهم وحاجاتهم (السورية، كما العروبة، تزداد عقيدية كلما ضعف مكوّنها التعاقدي: في المآل الأقصى ثمة قداسة العقيدة والتعسف المطلق للسياسة). والحال، تبدو العقيدة السورية المطلقة منشغلة البال بالاعتراض على العروبة لا بالاعتراض على كونها مطلقة وغير دستورية. بعبارة أخرى، لا تنتقد النظام الاستبدادي لـ»العروبة أولا» بل تنتقد العروبة ذاتها، وتنزع بثبات نحو موقف نافض لليد من العرب وشؤونهم وقضاياهم، وتميل إلى تغذية صنف من الوطنية السورية المتعصبة، تكشفت عن ملامح منفرة حيال لبنان بعد انسحاب الجيش السوري منه. وإذ تعمى العقيدة السورية المطلقة عن الاستبداد فإنها تجازف بأن تجدد شبابه بدم جديد.

ويبدو لنا أنه ينطبق على تنويعات «الأردن أولا» و»لبنان أولا» و»مصر أولا»...ما ينطبق على «شقيقتها» السورية: تنأى بنفسها عن عروبة شكلية ومجردة لمصلحة وطنية محلية (أو «قطرية») لا تقل عنها تجريدا وشكلية. وتصلح الوطنية هذه عقيدة مشرعة لسلطة نخب ترغب في الانفلات النهائي من الإلزامات المعنوية للفكرة العربية (حيال فلسطين بالتحديد: فالدول التي «تؤوّل» ذاتها هي جارة لفلسطين؛ لكن إذا نسيت فلسطين، فإن إسرائيل لن تنساك). ولا تغطي أي من هذه «التأويلات» تحولا من وطنية استبدادية إلى وطنية ديموقراطية، بل هي انتقال من وطنية استبدادية بمرجعية إلى وطنية استبدادية بمرجعية أخرى.

على أن التحول نحو وطنية ديموقراطية يقتضي بذل جهود ثقافية وفكرية كبيرة، لا يغني عنها وليس بينها توديع العروبة. أولها، نقد النظرية الرومانسية التي تنظر إلى المجتمع كهوية، والتي تبحث عن روح للأمة متعالية على الدستور والعقد الاجتماعي؛ وأوسطها، استيعاب العروبة ضمن وطنيات دستورية، بعيدا عن عدميتي العروبة المطلقة و»القطرية» المطلقة، ومن شأن ذلك أن يتكفل بإحياء روح التعدد، بل الكوزموبوليتية، التي ميزت الثقافة العربية حتى النصف الثاني من القرن العشرين؛ وآخرها، الانتقال من الاعتراف الشكلي بوقائع التعدد الاجتماعي الثقافي إلى معرفة هذه الوقائع ومراكمة المعارف الإثنولوجية والسوسيولوجية والتاريخية حولها. أما توهم العيش «في الدرجة صفر، اجتماعيا وسياسيا»، والتعويل على «القصائد الجوهرية» من أجل «خلق» مجتمع و»خلق» حضارة عظيمة وثقافة رفيعة (أدونيس) فلا يعدو كونه تأسيساً للطغيان وطلبا للسلطة المطلقة.