قال: هل ترى ماذا يحدث في العراق؟ خطفٌ على الهوية وذبحٌ على الهوية وعشرات الضحايا كل يوم. أليس لذلك علاقة مباشرة بالطبع العراقي وقسوته المشهورة؟ قلت، لا. هذا له علاقة بالحروب لأنها تحل الإنسان من أخلاقه وتتركه إلى غريزته. والغريزة تعيد أرقى البشر إلى زمن أهل الكهف. الم ترَ ماذا حدث في لبنان، عندما قتل طلاب الجامعات وأبناء «الصالونات» على الهوية؟ ألا تتذكر ماذا حدث في الجزائر طوال أعوام؟ ألا تذكر ماذا حدث في عمان بين الجار وجاره، وفي بيروت كيف تقاتل الحلفاء من نافذة إلى نافذة ومن شرفة إلى شرفة، في المنطقة الإسلامية وفي المنطقة المسيحية على السواء؟

عندما يعود الإنسان إلى غريزته، أو بالأحرى إلى حقيقته، لأي سبب من الأسباب، يعود فورا إلى الوحش في نفسه. المخلوق الغرائزي يحلل لنفسه كل شيء ويحول المجزرة إلى برّ وفضيلة، ويجعل الخلاص من جاره واجباً وطنياً وخلاصاً وطنياً. لذلك كان عدد ضحايا الحرب الأهلية في أميركا اكبر من مجموع ضحايا أميركا في جميع حروبها الخارجية. وعدد ضحايا الحرب الأهلية في لبنان اكبر من ضحايا المجاعة التي ضربته في الحرب العالمية الأولى. ولذلك كانت الحرب الأهلية في الجزائر اشد عنفاً مليون مرة من حرب المليون شهيد.

هذا الكائن البشري يجب أن يظل محاطا دائماً بأسلاك شائكة لكي يحمي نفسه ويرتدع عن سواه. لقد كان الألمان في الماضي هم شعب أوروبا الرومانسي. وكانوا لا يتحدثون إلا عن الروح. وكانوا أكثر رقيا إنسانيا من الفرنسيين والانكليز. ثم تحولوا إلى أقسى شعب في أوروبا. وتذوقوا طعم الفريسة في النمسا والدانمارك فأرادوا القارة كلها فريسة لهم. وكانوا يعتدون على الأمم وهم يصرخون انهم ضحيتها. وقبيل الحرب العالمية الأولى وقع كبار المثقفين بيانا يقول إن «الحضارة الألمانية» تواجه خطر الإبادة. وكانت تلك كذبة فاقعة، لأن أوروبا ستصبح ضحية الوحشية الجرمانية. وباسم «تمدين» العالم دقّ الفرنسيون أعناق الأفارقة. والغريب في النهاية أن «العبيد» هم الذين بنوا أعظم الأمم الحضارية: في مصر واليونان وروما. والتاريخ لغز مثل الإنسان. ومثله نصف بشر ونصف وحش.