لدى كتابة هذا المقال, وجدت نفسي أمام قضيتين كل منهما تغري أكثر من الأخرى على التعليق. الأولى تتصل بردود فعل مسؤولين لبنانيين تجاه مذكرة الجلب الصادرة عن القضاء العسكري السوري بحق النائب وليد جنبلاط, وكيف أن هذه المذكرة التي قال عنها أحد النواب أن مآلها سلة المهملات وأن لا أهمية لها, كانت محور جلسة لمجلس الوزراء اللبناني استمرت أربع ساعات, ليصدر بعدها بيان استنكار, يعتبر تصريحات جنبلاط حرية رأي!! وأن هذه الخطوة من جانب سوريا لا تخدم تعزيز العلاقات بين البلدين!!! وكأن كل ما سبق وقالته بعض الأطراف في لبنان منذ أكثر من سنة, ولغاية الآن بحق سوريا حكومة وشعباً كان يخدم هذه العلاقات.

لو أن نائباً سورياً تفوه بربع ما تفوه به النائب جنبلاط, هل كانت وسائل الإعلام اللبنانية ستعتبره حرية رأي؟ سؤال لا بد لمجلس الوزراء اللبناني طرحه على نفسه, بعد أن يعيد سماع الدرر التي نثرت من أفواه عتاة أقطابه, قبل فورة الدم وأثناءها وبعدها, وهطلت على رأس الشعب في البلدين حمماً من خزي وخيبة.

هذا الموضوع يشكل مادة تغري بالمناقشة خصوصا من الجهة القانونية, ولا سيما بوصفها المرة الأولى التي يقوم فيها مواطن بالدفاع عن بلده حيال تحريض خارجي عبر القضاء, وهو أمر ينكره الخصوم متذرعين بالجانب السياسي ومقتصرين عليه, من دون اعتبار لنتائج مثل هذه المحاكمة من حيث تكريس سلطة القانون.

لكن بما أن موضوع العلاقات السورية ­ اللبنانية بات من الموضوعات المثيرة للملل, وحتى الاشمئزاز لكثرة ما قيل فيه, من دون جدوى, اللهم سوى تراجع العلاقات من سيئ الى أسوأ, فمن الأفضل الالتفات إلى شأننا السوري الداخلي, والذي لا يخلو من جديد دائماً, والبحث في ما يسببه مغص مزمن لبلدنا ما زال يقلقنا. وهي القضية الثانية التي حرضت الأسئلة الساذجة المطروحة ذاتها على مدار الساعة حول البيروقراطية كبيئة نموذجية لنمو الفساد.

فقد طالعتنا إحدى صحف المحافظات بتقرير مطول عن الجهود الجبارة لوزارة الزراعة في مكافحة حشرة السونة التي تغزو حقول القمح في مثل هذه الأيام من كل عام, وتشدق التقرير بأرقام المساحات الشاسعة المشمولة بعمليات المكافحة الجوية والأرضية, وفرحنا لهذا الخبر وصفقنا حتى احمرت أيدينا, لأن محصول القمح سينجو من السونة اللعينة, واستكملت فرحتنا بتصريحات رئيس حكومتنا تحت السقف المفخوت حول الأمن الغذائي الذي حققناه بإنتاج القمح...

إلا أن «الحلو ما يكملشي», إذ عادت صحيفة محلية تصدر في محافظة أخرى, وأبلغتنا أن حشرة السونة تمكنت من غزو أكثر من 55 ألف هكتار من حقول القمح في محافظة حلب, وعبرت جحافلها أريحا وسهل الروج وسراقب ومعرة مصرين ومعرة النعمان وسنجار وكفر نبل, وألحقت أضراراً مادية كبيرة انعكست على إنتاج القمح. وأخبرتنا الصحيفة مشكورة أن السونة بدأت زحفها من الشهر الماضي, وذكرت ­ وإن على نحو موارب ­ أن الأخوة المزارعين غير راضين عن عمليات المكافحة التي بدأت بها وزارة الزراعة متأخرة وغطت 11 ألف هكتار فقط. لذلك فإن الأخوة المزارعين والأخوة هنا غير الأشقاء, لأن الأخوة تعني أن لا مجال لحدوث شقاق بينهم, والعامل والفلاح بعرفنا الوطني أخوة «خي البي» طالبوا بأن تنفض وزارة الزراعة يدها من عمليات المكافحة وهم يقومون بها, لأنهم أحرص على رزقهم من موظفي الدولة, المعتمدين في رزقهم أساساً على المال السائب الذي يبعد الناس عن الحلال ويُعلِّم أكل الحرام.

لكن مديرية الزراعة في محافظة إدلب وبذكاء موفور تحسد عليه وبعد أن انفقت ما يعلم الله به ثمناً للمبيدات والمعدات الارضية وطائرات الرش الجوي, وبعد أن وصلت الإصابة بحشرة السونة إلى العتبة الاقتصادية في منطقة اللج, خرجت بفكرة خليبة عجيبة من عصر ما قبل المكننة لمكافحة السونة, وهي إغراء الأخوة الفلاحين بالتقاط حشرات السونة من الحقول باليد, وكل كيلوغرام منها ستدفع مديرية الزراعة ثمناً له أربعة آلاف ليرة سورية عداً ونقداً!! هل يملك عقل ­ اذا بقي عقل في رأسنا ­ القدرة على تخيل مشهد الفلاحين يجمعون حشرة بحجم حبة العدس من حقول شاسعة, أو تخيل الجهد المبذول لجمع كيلو غرام واحد من السونة المطلوب القبض عليها؟!

وأي عقل سيقر بأن ما تم هدره من خسائر مالية تسبب بها التأخير والإهمال, هدرٌ غير مقصود؟ أليس الأجدر في مكافحة حشرة السونة التي تأتي على رغيف خبزنا قبل حصاد حبات قمحه, أن تبدأ بمكافحة المهملين الذين هم الوجه الثاني للفاسدين, وأن المكافحة تعني تحديد مسؤوليتهم عن الخسارة التي لحقت بخزينة المال العام أولاً, وبرزق الفلاحين ثانياً, ومحاسبتهم على التقصير, لا بفتح حنفيات الحوافز الشحيحة واستغلال حاجة الفقراء الى الزج بهم تحت شمس الصيف الحارق للبحث عن إبرة في كومة قش.

فنضيف إلى سلسلة عجائبنا السورية أعجوبة جديدة في الاقتصاد الزراعي تضاف الى سوق الاقتصاد الاجتماعي, الذي نباهي به الأمم. ليبقى المواطن السوري محاصراً, وحاله حال من امتلأ فمه بالدم فإذا بصقه استغله الخصوم, وإذا بقي في فمه اختنق به.