"مقاربة الموت لا تُكتسب، اي اننا لا نكتسب ما لا نستطيع تكراره. فالموت حادث فريد في حياة الانسان.

وفي الوقت الذي لا نؤمن بوجود حياة اخرى، ولا بالتجسّد، لا يبقى امامنا سوى قبول العدم".

جان فرنسوا روفيل

(كاتب وفيلسوف فرنسي توفي اخيراً)

هل أخطات الحكومة بالغائها عيد التحرير، وفرزها اللبنانيين في الحدث الابرز والأهم في تاريخهم المعاصر، والذي تلتقي حوله عقول المواطنين وقلوبهم؟

وهل تأخرت قيادة المقاومة في نشر روح التحرير ليعم لبنان كله، بكل فئاته وطوائفه، عاملاً موحّداً بين المواطنين، عابراً فوق الثنائيات والثلاثيات التي تحدث عنها اول من امس الامين العام لـ"حزب الله"؟

كان 25 أيار هذه السنة يوماً حزيناً، ويا للأسف، عوض ان يكون يوم فرح.

ذلك بان اللبنانيين محبطون، على ما ابلغه صراحة الخميس رئيس الصناعيين لرئيسي الجمهورية والحكومة، رغم رفض الرئيس فؤاد السنيورة لهذه العبارة.

ولا ندري اذا كان الصناعيون اختاروا عيد التحرير ليفصحوا لاكبر مرجعيتين في الدولة عن هواجسهم، وهواجس سائر اللبنانيين جراء التناطح بين الرؤوس الحامية، فيما البلاد في شلل وركود، والعمال والمعلمون والمنتجون عموماً يشكون من شدة الضيق الاجتماعي، والصناعات مهددة بالتوقف والنزوح عن البلاد.

الا اننا لا نظن ان مبادرة الصناعيين، وهم عصب الاقتصاد، كانت مفاجئة لرئيس الحكومة الذي يحاول ايجاد توافق حول المشروع الاصلاحي، وهو توافق مرتبط مباشرة بمؤتمر الحوار الوطني الذي يتطلع اليه اللبنانيون بلهفة لاخراج بلدهم من الاحباط، ويجدون فيه خشبة خلاص من التباعد والانقسام والانعزال في منابذ طائفية ومذهبية. وقد اكد ذلك الامين العام لـ"حزب الله"، شاكياً ومتفائلاً.

والواقع ان التوافق المطلوب هو على المشروع الوطني، اي على مشروع بناء دولة حديثة يشارك فيها الجميع، وتندمج فيها جميع المكونات، على قدم المساواة. دولة عادلة يحكمها القانون، بعد تخلصنا من نظام الوصاية الذي عمل بقوة طوال ثلاثة عقود على الفصل في ما بينهم، وهو فصل لا يشبهه سوى الفصل العنصري في جنوب افريقيا، حيث طبق نظام الشطب والالغاء السياسي والجسدي... وقائمة الشهداء طويلة وقد تكون قد اقفلت!

وقد شدد رئيس المقاومة على ضرورة استمرار الحوار، داعياً الى توسيع نطاقه بحيث يشارك فيه الجميع.

وهو كان مصيباً في قوله ان الاكثرية لا تستطيع ان تحكم لبنان لوحدها، ولا الاقلية عندما تصبح اكثرية تستطيع فعل ذلك. وبدا كأنه يتطلع الى ما يجري في فلسطين، حيث ادى الخلاف بين الاكثرية والاقلية الى صراع دموي وقفت منه اسرائيل شامتة، ولا نظنها في تطلعها الى حالنا تفعل نقيض ذلك!

لذلك هو يتمسك بالحوار في حين كان ثمة من يراهن على ان المقاومة وسلاحها ومشروع الاستراتيجية الدفاعية ستفجّر الحوار، وتعيد "حزب الله" الى دائرة المواجهة، بالتزامن مع الجهود التي تبذل لاعلان "جبهة الخلاص" الموالية لسوريا والتي من شأنها زيادة الوضع تعقيداً، والحؤول دون نجاح مؤتمر الحوار.

لذلك محكوم على المؤتمر ان ينجح، من اجل فلسطين على الاقل! على اساس ان الفريقين المتنازعين هناك قررا الاحتكام الى الحوار لا الى السلاح، من اجل التفاهم على الحكم، واستتباعاً على اقامة دولة حرة، ومستقلة، تماماً كما كان يفترض ان يعمل اللبنانيون جميعاً، نظراً الى ان دولتهم واستقلالها وسيادتها وحريتها لا تزال مرفوضة من سوريا التي انتهت وصايتها على لبنان مع صدور القرار 1559 ومغادرة جيشها ومخابراتها الاراضي اللبنانية في 26 نيسان 2005.

وكما تواجه حكومة فلسطين رفضاً من اسرائيل للاعتراف بوجود شعب فلسطيني مستقل، وغير لاجئ، فانها تواجه كذلك مجموعات تصر على ان يكون لها وجود امني ذاتي، على غرار ما هو حاصل عندنا من وجود امني فلسطيني ذاتي، داخل المخيمات وخارجها.

لذلك فان اهم قضية يجب ان يعالجها مؤتمر الحوار اللبناني، قبل سلاح المقاومة، وحتى قبل السلاح الفلسطيني خارج المخيمات، هو الاتفاق على الاستقلال الوطني، واستقلال لبنان عن سوريا.

فشرعية القرار 1559 ذي الطابع الدولي والذي تجاوبت معه دمشق متأخرة ولكن مجبرة، بعدما قللت اهميته وتعاملت معه بخفة ولامبالاة – هذه الشرعية الدولية يجب ان ترافقها شرعية وطنية تتمثل في اجماع مطلوب من مؤتمر الحوار على هذا الموضوع. والمؤتمر يتمنى كثيرون توسيعه بحيث يشكل جمعية تأسيسية للبنان المستقل عن سوريا. وهذا الامر لم يتحقق الى الآن، ويا للأسف. اذ هو لو تحقق لما كانت دمشق تستعجل مذكرات الجلب لقادة سياسيين لبنانيين، على اساس ان لبنان اقليماً التابع لها، وان ما تفعله هو استدعاءات لرعايا تابعة لها، لا لمواطنين في دولة اخرى، لهم حقوقهم وحصاناتهم، فضلاً عن انظمتهم القضائية، ومنظومتهم القانونية.

والمفارقة الاغرب هنا ان سوريا التي يُلاحق مسؤولون فيها بواسطة القضاء الاممي المتمثل في مجلس الامن، بتهمة الضلوع في مؤامرة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، ثم في الاغتيالات التي تلت الجريمة الكبرى واستهدف آخرها شهيدنا الحبيب جبران تويني، هي نفسها التي تلاحق قادة لبنانيين في مقدمهم النائب وليد كمال جنبلاط، لانهم يدافعون عن استقلال بلدهم وسيادته، ويوجهون اصابع الاتهام الى مسؤولين سوريين في اتخاذ القرار بتصفية الرئيس الحريري وبتوفير الادوات اللازمة لذلك.

ان البداية يجب ان تكون من مؤتمر الحوار، لا من مجلس النواب ولا من مجلس الوزراء، وتأتي في سياق المشروع الوطني لاعادة بناء دولة سيدة مستقلة عن سوريا وسواها، وتثبيت هذه الدولة باجماع وطني لا يشذ عنه أحد. على ان يأتي التمثيل الديبلوماسي نتيجة لهذه العملية. اذ لو كان هناك تبادل للتمثيل الديبلوماسي بين دمشق وبيروت، لما لجأت سوريا الى البوليس الجنائي الدولي، وحتى العربي لا فرق، لاحضار النائب وليد جنبلاط للمثول امام قاضي التحقيق العسكري السوري، متجاهلة دولة بأمها وأبيها اسمها لبنان، ومتجاهلة كذلك مطالبات امهات مئات اللبنانيين الذين استحضرتهم دمشق من لبنان الى سجونها، وانكرت وجودهم لديها، ولا احد يدري اذا كانوا لا يزالون احياء أم قضوا تنفيذاً لاحكام سرية! علماً ان تكريس الاستقلال ليس اختراعاً. اذ من اجل الا تتعامل سوريا (الشام) مع لبنان كأنه جزء منها على اساس انه جزء من سورية الطبيعية، قرر مجلس النواب اللبناني المنتخب اعلان استقلال البلاد في جلسة عقدها في 20 ايار 1919، وارسال وفد الى مؤتمر السلام في باريس برئاسة البطريرك الياس الحويك وعضوية ممثلين لمختلف الطوائف، من اجل المطالبة بتثبيت هذا الاستقلال، وليس اعلانه على ما فعل الجنرال غورو في العام التالي، وسط معارضة لهذا الاستقلال من سوريا ومن جميع السياسيين الوحدويين اللبنانيين الذين كانوا يحلمون باقامة دولة عربية واحدة "لامة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، على ما يقول البعثيون والقوميون العرب.

وجاء في المذكرة التي رفعها البطريرك الى المؤتمر في 25 تشرين الاول 1919 "ان البطريرك الماروني رئيس الوفد اللبناني الى مؤتمر السلام، والناطق باسم الحكومة ومجلس الادارة في لبنان، مفوضاً من سكان المدن والقرى اللبنانية التي سلختها الدولة العثمانية عنه ويريدون الالتحاق مجدداً بلبنان، وذلك دون تمييز في الطائفة والمذهب (...) يطالب بالاعتراف باستقلال لبنان الذي اعلنته الحكومة والشعب اللبنانيان في 20 أيار 1919؛ واعادة لبنان الى حدوده الطبيعية والتاريخية بارجاع الاجزاء التي سلختها منه تركيا اليه (...)".

ونقل عن رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك ريمون بوانكاريه: "نحن مدينون لكم ايها اللبنانيون. لذلك نحن مجبرون على مساعدتكم. فلا تظنوا ان فرنسا تريد استعماركم، بل هي ستعمل لايصالكم الى الاستقلال".

من هنا فان الاستقلال عن سوريا يجب ان يُفرض عليها من مجموع اللبنانيين الذين يجب ان تعمل حكومة الاكثرية على تجميعهم حول هذا الهدف، والا ستظل دمشق تجد ذريعة لعدم الاعتراف بلبنان واقامة تمثيل ديبلوماسي معه، بالانقسامات الداخلية، والمنازعات سواء حول سلاح المقاومة او حول الوجود العسكري الفلسطيني، داخل المخيمات وخارجها، او بالجبهات التي تقيمها وتأتمر باوامرها، وتتبع توجيهاتها، في حين ان الدولة المستقلة والقوية هي الضامن الاساسي والوحيد لأمن اللبنانيين والفلسطينيين على السواء.

ولا قيمة لما تقوله دمشق من انها مع استقلال لبنان وسيادته. اذ لو كانت صادقة في ما تقول لما كان البلد الذي استقل عام 1943، اي قبل 66 سنة، ينتظر مذذاك ان تعترف به وباستقلاله وتقيم معه علاقات ديبلوماسية. ولو هي كانت مقتنعة حقاً باستقلال لبنان لكانت اخرجت جيشها منه حبياً بعد سنتين من اتفاق الطائف الذي اقر بموافقة سوريا بنهائية الكيان اللبناني، بدل اخراجه بقرار دولي وبطريقة مذلة ما كان اللبنانيون يتمنونها له اطلاقاً.

اما الحوار، فيجب ان يحصّن هو الآخر من غدر سوريا. لانها كانت على الدوام ضد الحوار بين اللبنانيين منذ اندلاع الاحداث فوق ارضهم عام 1975. وكانت تتدخل لعرقلة الحوار، سواء بايفاد وزير الخارجية آنذاك عبد الحليم خدام، او رئيس الاركان حكمت الشهابي، وفي كل مرة كان يحدث تدخل سوري في الحوار اللبناني – الفلسطيني، كانت تستعر الجبهات التي كانت سوريا تملك ادوات تحريكها. وقد سبق لخدام ان هدد الموارنة ابان رئاسة الشيخ امين الجميل بأن الاخير قد يكون آخر رئيس ماروني للبنان!

وسوريا اصلاً لا تؤمن بالحوار، ويدار الحكم فيها بموجب قانون للطوارئ ابسط ما يفعله انه يزج بمعارضيه في السجون ولا فرق لديه بين نائب يعترض ومثقف يوقع بياناً وسياسي ينتقد، فكلهم إلى زنزانة واحدة.

لقد كان اللبنانيون يأملون في ان يكون عيد التحرير مناسبة لاظهار وحدتهم حيال المقاومة، كما حيال الرفض السوري للاستقلال والتعامل مع لبنان على انه تابع لريف دمشق. الا ان هذا الامر لم يحصل، ويا للأسف، فاستعاضوا عنه بمواكبة الحوار الفلسطيني بلهفة وحماسة للوحدة ولمشروع الدولة المستقلة.

يبقى سؤال: هل تنتقل عدوى الحوار الى دمشق، بعدما صار الطريق الاسلم الى الاصلاح، سواء في العراق او في مصر وفلسطين والسودان، وحتى في الكويت والسعودية؟

انه كالرجم في عالم الغيب!