يحاول أحد أهم اقطاب الساسة اللبنانيين المنضوين تحت لواء من يعتبر نفسه زعيماً للأكثرية والذي يشغل في الوقت نفسه منصباً رفيعاً في الدولة اللبنانية، ان يروج لفكرة مفادها انه راغب أعظم الرغبة وحريص أكبر الحرص على اقامة «علاقات طبيعية» مع سورية، وهو يكثر من ترداد أمثال هذه العبارات ولا سيما منها ان «لبنان لا يمكن ان يُحكم ضد سورية».

وهو طبعاً يبدي استغرابه البريء ودهشته العفوية لأن سورية لا تبادله عواطفه النبيلة وتفتح له بوابات دمشق وصدرها وذراعيها.

ولأننا نفترض فيه الصدق وصفاء النية فإن من واجبنا تجاهه ان نفاتحه ونشرح له بعض الحقائق لعلها تزيل اللبس والغموض، وتكشف له اسراراً تمنع دمشق عن مقابلة تحيته بما هو أحسن منها. علينا ان نقول كلمتنا ولا نتوقف بعدها، وله ان يتمعن فيها أو ينساها ويتجاهلها، فأهل التيار السياسي الذي ينتمي اليه أدرى بشعابه، ولكنه إذا كان جاداً في تصريحاته العلنية، فلعله يجد في التفكير بها إجابات قد تبين له ما نظن انه كان خافياً عليه.

ولنبدأ بالقول بصراحة ومن دون مواربة اننا في دمشق نعتبر ان من يذهب الى الولايات المتحدة فيحرض ضدنا على جميع منابرها وفي كل فرصة تتاح له، ليس بامرئ حريص على اقامة علاقات تتسم بالود والصفاء مع دمشق.

وسواء اتفق القارئ العربي مع سياسات دمشق أم اختلف، فإننا نتوقع منه الانصاف على اقل تقدير، وان يتمتع بحد أدنى من الوعي السياسي يسمح له بأن يدرك ان العلاقات التي بلغت من الصعوبة بين دمشق وواشنطن الحد الاكبر انما وصلت الى ما وصلت اليه بسبب مسألتين اساسيتين جوهريتين تصغر أمامهما جميع القضايا الاخرى: موقف سورية من كل من القضيتين، العراقية والفلسطينية. ومع احترامنا لكل من يختلف من الاخوة العرب مع موقفنا من هاتين القضيتين، وتفهمنا ان بعضهم قد لا تعجبه خيارات سورية المتعلقة بهذين الشأنين، وقبولنا لانتقاداتهم العلنية والمستترة لنا حول هذين الموضوعين، إلا اننا نعتبر ان الخلافات ضن الاسرة العربية الواحدة هي أمر واقعي ومقبول ويمكن إدارته. وبالعكس تماماً، فإننا لا ننظر باحترام الى استغلال بعضهم للتردي الكبير في العلاقات السورية - الاميركية للتهجم على سورية على المنابر الاميركية، إدراكاً منهم بأن هذا ما يطيب للساسة الاميركيين سماعه اليوم، واعتقاداً منهم ان هذا يزيد رأسمالهم السياسي في واشنطن ويجلب لهم رضا الباب العالي والحظوة لدى الصدر الأعظم.

ونحن نسلم بأن لدينا اليوم خصوماً في لبنان كما ان لدينا حلفاء مخلصين وأصدقاء أوفياء، وأحد أهم خصومنا السابقين في لبنان، يعلن اليوم مراراً وتكراراً انه كان على خصومة مع سورية عندما كانت سورية موجودة في لبنان، أما اليوم وقد خرجت القوات السورية من لبنان فلم تعد بينه وبين سورية اي اسباب موجبة للعداء، وانه يعتقد ان المصلحة الوطنية للبنان تتمثل في اقامة افضل العلاقات مع سورية. إننا نسمع كلام خصم الأمس هذا فيعجبنا، ونتمعن في أفعاله فلا نرى فيها ما يناقض أقواله، فنحترم فيه الخصم الشريف والسياسي النزيه.

سئمنا سماع ما يكرره رموز تيار الأكثرية الحاكم اليوم في لبنان من ان لبنان لا يمكن ان يحكم ضد سورية في الوقت نفسه الذي يتفنون فيه في قيادة حملة عنيفة شعواء ضد سورية وحكومتها ورئيسها. والأمر يشمل جميع رموز هذا التيار من دون استثناء، الى درجة تجاوزت بمراحل كبيرة أدب الخصومة السياسية بل تجاوزت حتى ما يمكن ان يكون مقبولاً في المهاترات السياسية المألوفة بين الخصوم. والمضحك غير المبكي أنهم لا ينسون ان يذيلوا لازمة شتائمهم بعبارة مكررة مبتذلة حتى مجها الذوق السليم:

ولكننا حريصون أكبر الحرص على اقامة علاقات أخوية طبيعية مع سورية! ويشمل ذلك فيما يشمل أن أحد كبار رموزهم الذي جاء الى واشنطن منذ بضعة شهور وتحدث في مركز حاييم صبان في واشنطن في 6 آذار (مارس) 2006، أي بعد مرور حوالي عام على اكتمال الانسحاب السوري من لبنان، قال: «لقد جئت الى الولايات المتحدة لأطلب مساعدتها ضد الديكتاتورية السورية... هل تستطيع السياسة الاميركية بالتعاون مع العرب ان تغير سلوك النظام السوري... يقوم السوريون بتهريب الارهابيين والتكفيريين الى لبنان، تماماً كما يفعلون مع العراق... وسياستكم في العراق سمحت للسوريين بأن يلعبوا داخل العراق... انني أنصحكم بأن تستفيدوا من انشقاق السيد عبدالحليم خدام، فقد يأتي يوم يلعب فيه دوراً مهماً في المرحلة الانتقالية في سورية... ولذلك أقول انه إذا كان بوسع الولايات المتحدة ان تقوم بشيء لتغيير سلوك النظام السوري فلا مانع لدي».

ومن التجرد والواقعية ان لا نتجاهل ان لهذا الزعيم الوطني اللبناني الكبير خلافات مع سورية، وان حساباته السياسية تبيح له وفق منطقه ان يستغل الوضع السياسي الراهن بين دمشق وواشنطن ليسجل نقاطاً يعتقد انها ستعزز مواقعه السياسية والانتخابية في لبنان، أما ان يكرر اتهامات تخلى معظم المسؤولين الاميركيين انفسهم عن تردادها حول الدور السوري في العراق، وذلك كي ينال الحظوة ويرسم ابتسامات الرضى على وجوه خبراء مركز حاييم صبان في واشنطن، فنترك أمر تقييم ذلك للقارئ اللبيب.

ونأتي الآن الى المسؤول اللبناني الرفيع المستوى، فهو يبدو للوهلة الأولى أكثر ذكاء وأبعد دهاء من زميله السابق الذكر، إلا ان الشطارة التي يحاول ان يبديها في حديثه المنمق والمستمر عن ايمانه بضرورة تحسين العلاقات السورية - اللبنانية لم تعد تنطلي على أحد لا في سورية ولا عبر العالم، وجميع من أعرفهم من الساسة الاميركيين الذين تابعوا تصريحاته ومقابلاته في الاعلام الاميركي اجمعوا انه كان أكثر إضراراً بسمعة سورية في الولايات المتحدة من زميله السابق الذكر الذي وصفوه بأنه عديم المصداقية منفلت اللسان.

ففي قلب واشنطن، لم يترك هذ المسؤول منبراً اعلامياً إلا وتحدث فيه عن سورية بشكل مسيء للغاية، بدءاً من حديثه مع جنين زاخاريا مراسلة محطة «بلومبيرغ»: «... لقد انسحبت القوات العسكرية السورية، ولكن بقيت مجموعات استخبارية سورية تمارس نشاطاتها في لبنان، من شبه المستحيل ان نحدد عدد هؤلاء العملاء لأن لبنان وسورية بلدان جاران وهناك عشرات الآلاف من السوريين الذين يعملون في لبنان...»، ومروراً على حديثه في نادي الصحافة «... اليد الحديدية لأجهزة الاستخبارات السورية...» أما الكارثة الحقيقية فكانت مقابلته مع ليلي ويموث في «الواشنطن بوست» حيث ايد ضمناً اتهامات ليلي ويموث لسورية بأنها تحرك القوى السياسية المعارضة له في لبنان (القوى المعادية للحرية والمؤيدة لسورية)، وعندما سألته ويموث عما إذا كان يعتقد ان سورية هددت الرئيس اللبناني اميل لحود بالقتل في حال تقديمه استقالته (كذا) أجاب بأنه شخصياً لا يعتقد ان لحود من النوع الذي يمكن ان يستقيل، ولكن ويموث كررت عليه سؤالها:

«هل سيقتلونه إذا قام بذلك؟» فرد بأن لحود لا يملك الحرية كي يقرر الاستقالة، وذلك قبل ان يعيد تأكيده لها بأن عملاء الاستخبارات السوريين لا يزالون فاعلين في لبنان. طبعاً هذه التصريحات تصدر عن مسؤول تأتمر اليوم بإمرته كل الأجهزة الأمنية اللبنانية من دون أن يقدم شاهداً واحداً على صدق مزاعمه. أما رابعة الأثافي فتمثلت في مقابلته مع وولف بليتزر على محطة «سي ان ان» عندما أعاد تكرار القصة الملفقة بأن الرئيس بشار الأسد هدد المرحوم رفيق الحريري، علماً أنه يعرف جيداً أن الرئيس الاسد لم يهدد أحداً في حياته، وأنه بطبيعة شخصيته وأخلاقه وتكوينه الشخصي ومزاجه النفسي بعيد كل البعد عن توجيه الاتهامات أو الاهانات أو الحديث بغضب مع أي شخص في الدنيا مهما انخفضت أو علت مرتبته، وذلك ما يشهد عليه كل من قابل الرئيس الاسد من سوريين ولبنانيين وأجانب، وكل من تعامل معه عبر حياته منذ كان طالباً وحتى بعد توليه سدة الرئاسة يشهد له بالدماثة وحسن التهذيب، فكيف هو الأمر عندما يكون مع رجل بمكانة الحريري ومنزلته.

تلك كانت مجموعة منتخبة من تصريحات ذلك المسؤول اللبناني الرفيع المستوى في واشنطن علناً وعلى رؤوس الأشهاد، أما الذي دار بينه وبين اساطين السياسة الأميركية وكبار المسؤولين في الإدارة وراء أبواب مغلقة، فهو أمر نترك تقديره لخيال القارئ، والمكتوب يقرأ من عنوانه. ويمكننا اعتبار التصعيد الأميركي المباشر ضد سورية والذي تبع مباشرة زيارته لواشنطن نتيجة منسجمة مع جهوده الحميدة، وايمانه الراسخ الذي لا يتزعزع بضرورة تحسين العلاقات السورية اللبنانية. أما الجوهرة في تاجه فهي القرار الذي صدر أخيراً عن مجلس الأمن بعد زيارته التاريخية المشهودة له.

ولنكن واضحين هنا، فنحن لا نصادر حق أحد في الإختلاف معنا وفي شن الحملات السياسية ضدنا سواء ارتفع مستواها أم انحدر، ولكننا نتحدث هنا حصراً عن التحريض الذي يمارسه بعض أقطاب الحكومة اللبنانية ضد سورية في الولايات المتحدة ومجلس الأمن.

ولهذا المسؤول ذي الموقع الرفيع في الحكومة اللبنانية، نوجه السؤال التالي: إذا لم تكن تصريحاتك وتحريضك وانجازاتك الباهرة التي حققتها في زيارتك الأخيرة لواشنطن هي أفضل مثال لمسألة كيف يمكن للبنان أن يحكم ضد سورية؟ فبالله عليك اعطنا مثالاً مختلفاً ونوّرنا لعلنا نستفيد ونتعلم.

وعلى يد هذا السياسي البارع اصبحت فجأة قضية إقامة علاقات ديبلوماسية بين سورية ولبنان شأناً يجري تباحثه في واشنطن ولندن وباريس ومجلس الأمن. فهذه السفارات افتتحت أم لم تفتح، مسألة تمس الأمن والسلام الدوليين، وبفضله اصبح فتى العروبة الأغر جون بولتون مهووساً بمن يفتح سفارة في لبنان ومن لا يفتحها، وهو أمر غير مألوف لا في السياسة الدولية ولا حتى في السياسة الأميركية، فالاستثناء التاريخي الوحيد في اهتمام الولايات المتحدة بقضية التبادل الديبلوماسي بين الدول كان حتى الأمس القريب محصوراً بإسرائيل ومن الذي يتبادل أو لا يتبادل معها العلاقات الديبلوماسية، ثم أضيف العراق أخيراً الى قائمة الرعاية الأميركية النبيلة، فأصبح الشغل الشاغل للديبلوماسية الأميركية حث دول العالم على فتح سفارة لها في بغداد.

ولسورية موقف واضح وبسيط بهذا الصدد، فسورية لا توجد لديها أي نيات خفية تجاه لبنان. وخير دليل على ذلك انها واصلت اعترافها الرسمي الواضح بسيادة لبنان واستقلاله التام الناجز حتى في فترة تمتعت فيه بأعظم قدر من النفوذ في لبنان وبقبول دولي واسع لوجودها العسكري فيه، بل ان الرئيس السوري بشار الأسد كان أول رئيس جمهورية سوري يزور لبنان زيارة رسمية ويحيي خلالها العلم اللبناني وينصت باحترام للنشيد الوطني اللبناني وهما (اي النشيد والعلم) رمزا سيادة لبنان واستقلاله، وذلك في الفترة نفسها التي كان فيها ذلك المسؤول الحكومي الرفيع المستوى يتغنى فيها بالعلاقات المميزة مع سورية ووحدتي المسار والمصير!

وقد أكد وزير الخارجية السوري وليد المعلم في أكثر من مناسبة بأنه لا توجد لدى سورية موانع تحول دون التبادل الديبلوماسي بين سورية ولبنان، إلا ان هذا لا يمكن ان يتم في ظروف التحريض والتهييج الذي تمارسه أطراف نافذة في الحكومة اللبنانية وان أول شرط للتبادل الديبلوماسي هو خلق الجو الملائم والمناسب والذي يسمح بالبدء بتطوير العلاقات في مناخ ايجابي. إن مسالة الاعتراف بسيادة دولة ما منفصلة في القانون الدولي عن مسألة تبادل البعثات الديبلوماسية، فسورية تعترف مثلاً بسيادة واستقلال عشرات الدول، لكنها لا تتبادل معها العلاقات الديبلوماسية.

أما ان تسفر جهود ذاك المسؤول عن دفع الولايات المتحدة وفرنسا الى استصدار قرار غريب عجيب لا سابقة له في تاريخ مجلس الأمن «يشجع» سورية على اقامة العلاقات مع لبنان، فهو يكشف بالضبط ما يريده ذلك المسؤول: ان يخلق كل العقبات الممكنة في وجه تطور تلك العلاقات وافتتاح السفارات. فالجو السياسي الذي أدى هذا القرار الى خلقه هو بالضبط الجو الذي لا يشجع اي حكومتين في العالم على بدء التبادل الديبلوماسي، فيا له من تناقض بين ما يصرح به هنا وهناك وبين النتائج العملية التي تمخضت عنها أفعاله.

نبارك له جهوده، وندعو له بالمزيد من الفتوحات المظفرة، وله الحرية في أخذ المواقف التي يريد أخذها منا، فهذا شأن بينه وبين القوى السياسية التي ينتمي اليها، ولكننا نناشده، احتراماً لعقل القارئ، ان يتوقف عن التغني بحرصه على العلاقات الأخوية السورية - اللبناني