نصر شمالي

لا يجوز أبداً أن نطرح على أنفسنا وأمتنا مشاكل لا حلّ
لها إلا بالزوال التام لأحد الطرفين المختلفين!

بسبب الحصار الطويل الرهيب، الذي بلغ ذروته بالتجويع المتعمّد للشعب الفلسطيني، يحدث أن تغيب البديهيات العظمى عن الأذهان، فيغفل البعض ويتغافل الآخر عن أن مساحة بلاد الشام والعراق في حد ذاتها تبلغ أكثر من 755 ألف كيلو متر مربع يقطنها أكثر من 60 مليوناً من البشر المتجانسين المتآخين على مرّ العصور، ويغيب عن البال ما يتوفر لهذه المنطقة الشاسعة من ثروات طبيعية، متداخلة متكاملة، ومن بنى تحتية مادية هائلة نهضت على تراكم عمراني تاريخي متواصل عميق الغور، وترعاها ذاكرة جمعية تاريخية مشتركة تربط من دون عناء أول نشوء الحياة المجتمعية على وجه الأرض بآخره، كذلك يغيب عن البال أن هذه الكتلة البشرية الجغرافية الغنية مبدّدة إلى حدّ كبير وخطير، حيث حوالي ثلثي الأرض وحوالي ثلثي السكان في قبضة الاحتلال الأميركي الصهيوني المباشر، وحيث معظم ما تبقى، أي حوالي الثلث أرضاً وبشراً، يعاني من الضغوط والحصار والنفوذ الأميركي الصهيوني المدمّر، وعندما يكون الحال كذلك، وهو كذلك حقاً، هل يعقل عدم الإقرار بداهة أن هذه المنطقة بأكملها تستدعي النضال من أجل استردادها قبل أي نضال آخر؟

إن هذا الجزء من الوطن العربي الكبير مؤهل في حدّ ذاته لاحتلال موقع مرموق في الأسرة الدولية حال استرداده، غير أن المسألة لا تقتصر على التجاهل الخطير لهذه الحقيقة وهذا الواقع، بل تتعداها إلى ما هو أعظم خطورة، حيث تتعرض محاولات الاسترداد ممثلة بالمقاومة وحرب التحرير لأخطار العصبيات الجاهلية، الدينية والعلمانية، التي تعيق نهوضها وتقدمها وانتشارها، بل تهدّد وجودها!

***

ليست العصبيات الجاهلية سوى عصبيات فئوية انكفائية، سواء أكانت قبلية أم عرقية أم دينية.. أم سياسية! حيث الأحزاب السياسية كثيراً ما تنكفئ وتتحول بدورها إلى ما يشبه الطوائف المنغلقة، أي إلى نقيض ما نهضت على أساسه، وإذا بها تضمر الأنانية الذميمة والمصالح الخاصة الضيقة رغم ادعاءاتها المغايرة لتعظيم نفسها، ورغم مبرراتها المعلنة المنمقة للحط من شأن الآخر وإقصائه، فلا ينجم عن ذلك في النتيجة سوى اضمحلالها وهلاكها!

إن العصبيات الفئوية الجاهلية هي الحاضنة المنتجة للنفاق، وهي المرتع الخصب للمنافقين، وكم روّعني (بمعنى الكلمة حقاً) أن استمعت قبل أيام في الدار البيضاء، أثناء انعقاد المؤتمر القومي العربي السابع عشر، إلى خطابين في مكانين وزمنين مختلفين، أحدهما يحرّض حركة حماس ضد حركة فتح، علماً أن المحرّض ليس فلسطينياً، والثاني يحرّض البعثيين ضد غيرهم في العراق، علماً أن المحرّض ليس عراقياً!

لقد كان ذلك، كما فهمته، تظاهراً مريباً بالغيرة على المقاومة أكثر من غيرة المجاهدين الميدانيين، ونفاقاً يسعى إلى تحويل الإستراتيجية الجهادية غير المرتدة إلى طلقات مرتدة تقتل أصحابها، فروّعني ذلك إلى الحد الذي خرجت فيه عن طوري أمام المؤتمر، خاصة بعد أن رأيت النفاق يتصرف كأنما هو يحمل تفويضاً بمخاطبة المؤتمر نيابة عن البعث ومقاومته في العراق، ورأيت فيه وجهاً آخر للمنافق الذي يدعو إلى استئصال البعث!

***

لكننا ونحن بصدد لحظة تاريخية، إقليمية ودولية، توفر لنا بعضاً من الشروط الأساسية التي تساعدنا على استنهاض الأمة الكابية منذ قرون، يتوجب أن لا نضيع هذه الفرصة النادرة، وأن نقبض بقوة على زمام هذه اللحظة الثمينة، وذلك يفرض أن يكون خطابنا توحيدياً جامعاً لا مفرقاً مبدداً، من دون أن يعني ذلك، بالطبع، السكوت عن الأخطاء أو الارتكابات أو الجرائم التي تقدم عليها هذه الجهة أو تلك وهذه الدولة أو تلك، فالخطاب التوحيدي بأبعاده القطرية والقومية والإسلامية والأممية لا يتعارض أبداً مع فضح الارتكابات المحددة في أمكنتها وأزمنتها المحددة، ولا يجوز أبداً أن نطرح على أنفسنا وعلى أمتنا مشاكل لا حل لها إلا بالزوال التام لأحد الطرفين المختلفين! وكيف يكون الحال إذا كان خطاب الإقصاء يتناول شعباً بأكمله وليس مجرد حكومة أو فصيل سياسي؟!

***

إن الأمم لا تؤخذ إلا من داخلها، وقد أخذ العدو أمتنا من داخلها أزمنة طويلة، وهاهو اليوم يجرب تقويض محاولات نهوضها الجادة المبشرة، بسعيه المستميت لأخذ هذه المحاولات من داخلها أيضاً، يساعده في مسعاه الجهلة والانتهازيون والمنافقون والخونة، فبينما يتواصل العمل على توحيد الصفوف ودمجها في جملة المجتمع الوطني/القومي/الإسلامي، وبينما نرى الشعب الفلسطيني الباسل وقد نجح في ذلك أخيراً إلى حد كبير جداً، تحاول العصبيات الجاهلية، تجاه العراق خاصة، تعطيل العمل التوحيدي الضروري، تارةً بذرائع دينية ضد القوميين وتارةً بذرائع قومية أو ليبرالية ضد الإسلاميين!

والحال أن ما يتوجب التطلع إليه والسعي من أجله بإخلاص هو الكتلة البشرية التي لا يقل تعدادها عن مليار ونصف المليار، المنتشرة ما بين قزوين والأطلسي، والتي تجمعنا وإياها في الماضي والحاضر والمستقبل جميع الأساسيات المصيرية، بينما تحاول العصبيات الجاهلية تعميق خلافاتنا الثانوية ابتداءً بعلاقاتنا مع دول الجوار، وتحويل هذه الخلافات إلى رئيسية!

إن محاولة مساواة دول الجوار، المتآخية معنا تاريخياً، بالولايات المتحدة والكيان الصهيوني هي في أحسن حالات سوء الظن خطأ فاحش مدمّر ينم عن تفكير عصبوي فئوي، فمثل هذه الدول يتوجب استردادها إلى الرابطة العربية الإسلامية، أو الإسلامية العربية، حتى وإن كانت لا تزال تحت حكم هيلا سيلاسي أو عدنان مندريس أو محمد رضا، أي حتى لو كانت حكوماتها ملتزمة بالسياسات الأميركية الصهيونية، ولنا في تعاملنا مع بعض الدول العربية الموالية لواشنطن والمعترفة بالكيان الصهيوني المثال الحي على ذلك، حيث يتوجب دائماً العمل على استردادها واحتضانها وليس استبعادها وإقصاءها، اللهم إلا إذا كنا نعتقد بأفضلية أبي لهب على بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي!