في بعض الأحيان تصدر عن السياسة الدولية مفارقات طريفة لا يمكن تجاهلها. وقد شهدنا مؤخراً واحدة منها. فبعد خمس وعشرين سنة من وصم ليبيا بأنها دولة مساندة للإرهاب الدولي، تم الترحيب بها في الأسبوع الماضي، وإعادتها الى حظيرة الدول المرضيّ عنها.

وقد أعلنت الولايات المتحدة استعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع ليبيا، وإزالتها من قائمة وزارة الخارجية للدول الراعية للإرهاب. وتلاشت ذكريات تفجير طائرة “بان أمريكان” فوق لوكربي في اسكتلاندا سنة 1988. ولم يعُد الزعيم معمر القذافي منبوذاً دولياً، بل هو الآن صديق واشنطن.

ولكن مَن يزور القذافي وقت ذلك الإعلان؟ لا أحد غير بعبع الغرب الجديد - كلاّ، ليس صدام حسين - ولا الرئيس الإيراني (الذي يتوق الغرب الى التخلص منه)، بل هوجو شافيز من فنزويلا.

وفي يوم اعلان القذافي ذاته، قالت الولايات المتحدة أنها سوف تفرض حظر أسلحة تامّاً على فنزويلا، مدعية أن هذه الدولة لم تتعاون في الحرب ضد الإرهاب. والسبب الرئيسي، كما قالت وزارة الخارجية الأمريكية، ان فنزويلا قد أقامت علاقات مع ايران وكوبا، اللتين تصنّفهما الولايات المتحدة، دولتين راعيتين للإرهاب. وهكذا،عندما غدا القذافي صديق واشنطن الجديد، أصبح صديقُ القذافي، شافيز، عدوَّ واشنطن الجديد.

كانت تلك آخر حركة في شجار دبلوماسي متصاعد بين الدولتين. ويطيب لبوش ان يمضي الى أبعد من ذلك، ولكن ما يقيده، حقيقة اقتصادية بسيطة جداً، هي: ان الولايات المتحدة تستورد نحو 15% من نفطها من فنزويلا.

والتوبيخات التي تصف بها واشنطن شافيز، آخذة في الاشتداد. فقد وصمه وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بأنه “هتلر”؛ بينما دعته وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس “واحداً من أخطر الرجال في العالم”. ويقول شافيز، ردّاً على ذلك، ان مهاجمته واعتباره مسانداً للإرهاب، هي آخر محاولة تقوم بها واشنطن لتشويه سمعته، وسمعة حكومته.

ورداًّ على ذلك، لا يوارب شافيز في كلامه، حيث وصف إدارة بوش بأنها “أعظم خطر يتهدد كوكب الأرض”. وفي وقت سابق من هذا الشهر قال شافيز ان “الساعات الأخيرة لامبراطورية أمريكا الشمالية قد حانت... وعلينا الآن أن نقول للامبراطورية: “لسنا خائفين منك.. فأنت نمر من ورق”.

ومع تصاعد حرب الكلمات بين واشنطن وكاراكاس، يتساءل المرء عن موقع لندن من ذلك. وكالعادة، يقتفي توني بلير أثر الأمريكيين، فيقول ان شافيز “يتجاهل قواعد وأصول المجتمع الدولي”، نظراً لعلاقاته الوثيقة مع كاسترو. وصف شافيز، بلير بدوره، بأنه “حليف لهتلر” وأنه “بيدق في يد الامبريالية”.

والعلاقات الآن بين لندن وكاراكاس في غاية التوتر. فقد هاجم توني بلير شافيز مؤخراً، بسبب إساءته استخدام السلطة. ويا لمدى اختلاف الأمر الآن عمّا كان عليه قبل اربع سنوات، عندما دُعي شافيز لتناول الشاي في قصر بكنجهام مع ملكة بريطانيا، في مناسبة يتذكرها “بودٍّ عظيم”. وقد التقى يومئذٍ مع توني بلير. وفي الأسبوع الماضي، خلال زيارة الى لندن، لم يلتق شافيز لا مع بلير ولا مع الملكة. ولكنه كان ضيف عمدة لندن، كين ليفنجستون، المعجب بشافيز. يقول ليفنجستون : “على مدى سنوات عديدة، ظل الناس يطالبون بأن يسير التقدم الاجتماعي والديمقرطية جنباً الى جنب، وهذا بالتحديد هو ما يحدث الآن في فنزويلا”.

وعلى الرغم من مؤازرة ليفنجستون لشافيز، ظلت وسائل الإعلام البريطانية معادية له، متهمةً إياه بدعم الإرهاب. وبالتزامن مع زيارته، نشرت صحيفة “التايمز” مقالة تساءلت فيها: “من هو الزعيم الدولي الذي يهدد علناً بتفجير آبار النفط في بلاده، ويدعم برنامج ايران النووي، ويقول ان جزر فوكلاند تعود في ملكيتها الى الأرجنتين، ويعتقد بأن روبرت موجابي مقاتل حقيقي من أجل الحرية”؟ والجواب هو، ان هذا الزعيم ليس سوى هوجو شافيز.

وفي هذه الأثناء قارن المحافظون شافيز بالطاغية الروسي ستالين. ولكن ستالين زعيم خان شعبه. وشافيز ليس كذلك. فعندما حاول الجيش القيام بانقلاب ضده بمباركة من الولايات المتحدة في ابريل / نيسان ،2002 كان الشعب هو الذي هبّ لنجدته، حيث طالب مليون من الناس بإطلاق سراحه.

وهنا تكمن مفارقة أخرى في قصة شافيز. فالحقّ أنه ليس دعم شافيز لكاسترو أو ايران أو حتى موجابي، هو الذي يزعج الولايات المتحدة حقّاً. فقد بدأ عداء واشنطن لشافيز عندما سعى الى امتلاك زمام السيطرة على صناعة النفط في بلاده، وأوقف عملية خصخصته. وما يثير قلق واشنطن كذلك هو ذلك النوع من العمل الثوري الآخذ في التفشي الآن. فقد قام رئيس بوليفيا الجديد، ايفو موراليس، بتأميم حقول الغاز في بلاده مؤخراً.

ولكن هنالك حقيقة قاسية سيصعب على كبريات شركات النفط، وعلى بوش وبلير ابتلاعها. فمن الناحية التاريخية استمرت تخبئة عائدات النفط من قبل شركات النفط الغربية، لتملأ جيوب مدرائها أو مصارف وول ستريت أو لندن. ولكن العكس يحدث الآن في فنزويلا. حيث يقوم شافيز، عن طريق استخدام عائدات النفط المتضخمة بسبب ارتفاع الأسعار، بتغذية ثورة نفطية لا لتمويل الأثرياء، بل الفقراء.

ولعلها المرة الأولى في التاريخ، التي يُستَغلّ فيها الذهب الأسود استغلالاً نافعاً. وقد مول شافيز حملة لمكافحة الفقر، وأخرى لمكافحة الأمية، وبناء العيادات الصحية في مناطق الأحياء الفقيرة. كما قُطعتْ وعودٌ بالمساعدة كذلك للأمهات الوحيدات، والعلاج المجاني لمن يعانون من مرض الايدز. ويشرح عمدة لندن، كين ليفنجستون، سبب إعجابه بهذا الرئيس الأمريكي الجنوبي، فيقول: “للمرة الأولى في بلد يزيد عدد سكانه على 25 مليون نسمة، يجري إنشاء خدمة صحية فاعلة. وقد مُنح سبعة عشر مليون نسمة، حق الرعاية الصحية المجانية لأول مرة في حياتهم. وتم القضاء على الأمية. وصار بوسع خمسة عشر مليون نسمة الحصول على الغذاء، والأدوية والمنتجات الأساسية الأخرى بأسعار يقدرون على دفعها. وتم تمويل ربع مليون عملية جراحية للعيون، لإنقاذ الناس من العمى. إن هذه لإنجازاتٌ عملية خارقة للمألوف”.

لقد أنهى صحافي التحقيقات العريق، جون بيلجر، من فوره ثلاثة أسابيع أمضاها في مدن الصفيح في كاراكاس، وشهد عن كثب ثورة شافيز. وينقل عن رجل في الخامسة والتسعين من العمر، قوله انه قبل مجيء شافيز الى السلطة “لم يكن لنا شأن بالمعنى الانساني. وكنا نعيش ونموت من دون تعليم حقيقي، ومن دون مياه جارية، ولم نكن نملك إمكانية الحصول على الغذاء. وعندما كنّا نقع فريسة المرض، كان الضعاف يموتون.. أمّا الآن فإنني أستطيع قراءة وكتابة اسمي، وأكثر من ذلك بكثير؛ ومهما يكن ما يقوله الأثرياء ووسائل إعلامهم، فقد غرسنا بذور الديمقراطية الحقة، وأنا أشعر بالسعادة الغامرة لأني عشت لأشهد ذلك”.

قد تكون هذه هي المفارقة الجوهرية لعهد شافيز. فهي المرة الأولى التي يعود فيها النفط بالنفع على شعب البلاد التي وُجد فيها، خلافاً للدول الأخرى التي تستمر في المعاناة. فقد نشرت مجلة “التايم” الأمريكية على غلاف طبعتها الأوروبية هذا الأسبوع صورة لدلتا النيجر، الغنية بالنفط ولكنها شديدة الفقر، وتغرق في الفوضى. وقد ظل أهالي دلتا النيجر، يطالبون منذ أكثر من أربعين عاماً، بالحصول على نصيب أكبر من ثروة النفط الذي يُستخرج من تحت أقدامهم، ولكنه لا ينوبهم منه سوى الفقر والتلوث. كما ان العراق، الذي يملك ثاني أضخم احتياطيات نفطية، يمضي هو الآخر بالتردي في وهدة الفوضى.