بعد مخاض عسير ولدت حكومة عراقية جديدة بعد أن استوجب ظهورها، تقديم أثمان مضاعفة من الخسائر المعقولة واللامعقولة، في ظل أوضاع صعبة جداً يعيشها العراق ما يضع هذه الحكومة منذ يومها الأول في امتحان صعب تستوجبه الضرورات الوطنية والانسانية. فحكومة المالكي ترث أوضاعاً ينوء بحملها الجمل مثلما تقول الأمثال وبشكل لا يمكنها من ترجمة بيانها الوزاري الى أفعال تنفيذية على الأرض، من دون تعاون من كل الأطراف الوطنية التي شاركت في العملية السياسية، وقبل ذلك فإن قبول الجمهور في دعم الحكومة وإسنادها سيكون الفيصل الحاسم في تجاوز ذلك الإرث الثقيل.

وأمام حكومة المالكي جملة من الاستحقاقات، لكننا نرى أن هناك ثلاث مهمات تحتل الأولوية في بناء العراق الجديد، أولها: الانفتاح الواسع وبروح وطنية صادقة ودون شروط مسبقة، لتعميق الحوار الوطني مع كل الأطراف التي نأت بنفسها خارج العملية السياسية، تبعاً لأسبابها وبما يحلحل العقد المترسبة التي تكاثرت بعد الاحتلال. هذا الأمر له انعكاساته الإيجابية في البناء الأساسي للتجربة العراقية الجديدة لأن إقصاء أو تهميش أي مكون من مكونات العراق السياسية والاجتماعية معناه إعلاء جدار الإقصاء والكراهية بين مكونات الشعب، الأمر الذي يسحب معه أثقالاً لا تعد ولا تحصى في درب مليء بالأشواك، وحسناً فعل المالكي حينما أوجد في تشكيلته الوزارية وزارة باسم “الحوار الوطني”. وثانيهما: العمل الجاد والحثيث وبروح المواطنة التكاملية على تجفيف كل مصادر العنف المستشري في العراق، وفي المقدمة من ذلك حل كل الميليشيات المسلحة العائدة لبعض الأحزاب المشاركة في العملية السياسية خاصة وأن أداء هذه الأذرع المسلحة طيلة الثلاث سنوات الماضية كان أداء عنيفاً وعدوانياً ضد الجميع لكونه مرتبطاً بأجندات خارجية لا تحمل للعراق وداً أو خيراً، كما أن الانفتاح على فصائل المقاومة الوطنية التي تحارب المحتل الأمريكي تنسيقاً وحواراً سيقوي أداء الحكومة أمام المحتل ويحاصر بؤر الإرهاب مما ينعكس إيجاباً على مجمل نشاط وأداء الحكومة المركزية وفي المقدمة من ذلك إجبار المحتل على جدولة انسحابه من العراق وإشاعة الاستقرار والأمن الجماعي.

وثالثهما: محاربة كل أنشطة الفساد المالي والاداري الذي استشرى في العراق بعد الاحتلال، والذي كانت أبرز مؤشراته السرقات الكبيرة من جانب مسؤولي الدولة، الذين أحيلت ملفات سرقاتهم لمفوضية النزاهة الوطنية من أجل محاسبتهم التي تأخرت للآن، مضافاً لذلك الهدر اللامسؤول للمال العام وبطريقة عبثية. هذه المؤشرات دفعت منظمة الشفافية العالمية ضمن مسوحاتها واستطلاعاتها المتكررة أن تجعل من الجهاز الإداري للدولة في العراق من أكثر الأجهزة فساداً في العالم. والنجاح في هذا الجانب سينعكس سريعاً على فعاليات النشاط الاقتصادي العراقي الذي بات مترهلاً وضعيفاً إزاء النهب المنظم الذي تمارسه قوى متعددة خاصة في ثرواته الأساسية - النفط والغاز - وعليه فإن ضخ فعل التنشيط في مرافق هذا الاقتصاد سيعالج بدوره مشكلة البطالة التي توسعت بشكل انشطاري على شرائح واسعة من الشعب بعد أن سدت بوجهها كل سبل العيش الكريم في ظل الاستزلام والفساد الذي أشاعته قوى الاحتلال وأزلامها في العراق.

هذه هي أولويات حكومة المالكي، وهي عمليات متداخلة مع بعضها لأن تحقيق أي إنجاز سينعكس فعلاً مؤثراً في سواه، وهذا ما يعطي للحكومة المشكلة المرونة في الاندفاع والتنفيذ ويمنحها القدرة في تلازم الأداء الذي يمكنها لاحقاً من تأسيس البناء المؤسساتي السياسي المرجو للعراق في مرحلته الجديدة.