بعض الظواهر العصية على الفهم في المنطقة هي كيف يتحول وجود الاحتلال إلى ضرورة وإلى ضامن لوحدة الأرض والشعب وتكون المطالبة ببقائه واحدة من استراتيجيات الحفاظ على الكيان والهوية؟

احدى نتائج الاحتلال الأميركي للعراق، عدا أنه مهّد للدخول الإيراني، جاءت لتكشف عن حيوية فائقة في المجتمع العراقي كانت مُضمرة أيام حكم البعث، وهذه الحيوية فيها السياسي والإيماني وفيها الدخول إلى صراع إقليمي وعالمي يتخطى حدود العراق وإمكانات أهله. وكشفت أيضاً عن مزاوجة بين الهويات الدينية المتنامية والمتجاورة بحيث صارت المصالح المشتركة تتخطى البعدين الدولي والقومي، في حين أنه بات واضحاً التوظيف السياسي لهذه الهويات وكيف أنها تتماهى مع التأثيرات الخارجية لإنتاج قدرة ضاغطة على كل المستويات. واحدة من هذه الزيجات هي ما يجمع شيعة العراق باخوانهم في إيران، لكن هذه المرة لا يقتصر الموضوع على علاقة قم بالنجف أو العكس، بل يتعداه إلى ما تريده طهران من جنوب العراق وباقي الشرائح المتأثرة بها في المنطقة.

حتى يومنا هذا يؤخذ على الأميركيين أنهم يعتمدون نظرية «الفوضى البناءة» كأحد خياراتهم المتبعة. وسارع العديد من الممانعين للسياسة الأميركية إلى تسليط الضوء على هذه النظرية، باعتبار أنهم «وجدوها»، بعدما كانت الأمور في السابق تصب لمصلحة ما يسمى «الشرق الأوسط الكبير».

الصراع بين الغرب والشرق مسألة تاريخية، وهو صراع لا يقتصر على المستوى العسكري فحسب، إذ بقدر ما هناك غلبة غربية لهذا الجانب إلا أن هناك غلبة واضحة للشرق في جوانب أخرى لا سيما أنه بات يتأسس على عدد من الدول الكبيرة والقادرة والمُربكة للنظام العالمي. هذه المسألة ليست مطروحة اليوم بهذا الشكل التبسيطي لأن فريق المواجهة من جانب الشرق ليس مؤهلا ً لأن يختصر هكذا صراع. بمعنى آخر التحالف الذي يحتكر لنفسه هذه السمة هو غير الجهة المعنية بالتصدي لهذه الاشكالية، إضافة إلى أنه يشاطر أميركا مشروعها في بناء الفوضى، ويطرح نفسه مزاحماً وشريكاً وهو يسلك مساراً تجزيئياً للمنطقة لأنه ينطلق من الفيديرالية في العراق.

حكم الملالي

النفوذ الإيراني بات واضحاً لجهة تأثيره على الامتدادات في الشرق الأوسط وأفغانستان، والسياسة الإيرانية في العراق انتقلت من طور الدخول والتأثير السياسي إلى مرحلة التخطيط لحيازة امتياز على الأجزاء الحيوية، وهذا ما يتيح لإيران نفوذاً واسعاً على مناطق غنية بالطاقة وعلى طرق إمدادها بحيث لا تعود «الأمة الفارسية» متصدية لـ «الاطماع» الغربية بل تصبح شريكة معها في تقاسم النفوذ، وأي حوار مع الأميركيين عليه أن يأخذ هذه الحقائق بعين الاعتبار. فالدول العربية بدأت تستشعر أن إيران شرعت في تنفيذ ما يسمى بـ «تصدير الثورة»، ناهيك عن نزعة «التشيّع» التي تنشرها بين الموالين لها.

حكم الملالي بات معنياً بإدارة الشؤون السياسية لامتداداته في المنطقة والعالم، وللسياسة الإيرانية أجهزة وملفات حول كل الأمور بحيث أنها تشبه الدوائر المتخصصة بشؤون المنطقة في الإدارة الأميركية. وهذه الأجهزة تدير التعاطي مع الوقائع على قاعدة ملء الفراغات الناجمة عن تراجع الحالة القومية وانهيار بعض الأنظمة ثم بناء منظومة عقائدية صلبة ليس هدفها مجابهة الأميركيين بقدر ما تهدف للدخول إلى عالم متعدد الأقطاب بجمهورية إقليمية قوية.

وتجاهر «الإدارة» الإيرانية بأنها إذا حوربت فستقاتل أينما كان. ويساعد ارتفاع سعر النفط على تأمين الموارد المالية لهذه الاستراتيجية. لكن أين تلتقي هذه الجبهة الممتدة من إيران إلى كل تشعباتها في العالم العربي مع مشروع الأميركيين في بناء الفوضى؟

الكل في المنطقة بات يلاحظ أن هناك من يحاول جذب الشيعة إلى مكان يخرجهم من جامعتهم العربية ليدخلهم إلى جماعتهم الدينية تحت شعار الصراع مع الغرب وتحت أشكال الانتظام المذهبي مذخراً بحلم امتلاك التكنولوجيا النووية، وهم باتوا في متناول منهجية تصدير الثورة مجدداً عبر استعمال كل الوسائل التقليدية المعتمدة: دعم مالي، تدريب، دعاية وبرامج إذاعية، وفي بعض الحالات سلاح وتقنيات متطورة. والديموقراطية في العراق وغيره لم تعد تخيف الاتجاهات المتشددة لأن نتائجها جاءت لمصلحتهم.

تعميم المجتمع الكهنوتي

لا يمكن للمرء أن يعتبر أن الثورة الإيرانية هي «تغييرية» بالمعنى الديناميكي بل يمكن وضعها في إطار تشكل المجتمع الكهنوتي، الذي من خصائصه أنه يعكس تعاظم الفصام بين الحداثة والتقليد، ثم يسهب في إقحام التعبير الديني في المقام السياسي، ويعمل على ضخ الشريعة بالدولة، وبالتالي يتشكّل منحى عقائدي لا يقف عند حدود الدول، بل يعود بالزمن إلى «خلافة» غير مسبوقة في التاريخ الحديث، فهي بهذا المعنى تعبر عن رجعية ملحوظة وعن منحى إمبراطوري. وهذا ليس من باب الافتراء أو التنكر لإيجابيات الجمهورية الإسلامية بل من باب التحليل الذي يريد أن ينأى بتأثيرات التوجه الرجعي على مستقبل الدولة القومية ومفهوم المواطنة والحداثة، وأيضاً تماشياً مع حقيقة أن حالة التكور المذهبي هي أول ما يهدد الاستقرار، وهي الحائل دون توحد جهود العرب والأمة، وهي أيضاً الأساس في أي مشروع للتجزئة أو الفوضى في المنطقة. من هنا فإن للفيض الفارسي محاذير جدية، وهو لن يكون مجدياً إلا إذا دخل من باب وحدة شعب وأرض العراق واحترام الدول وعدم تجاوز الحكومات في علاقتها مع الأحزاب والفئات الإسلامية الموالية لإيران، وأيضاً اعتماد لغة تحاور مقبولة مع المجتمع الدولي.

ثم هل من المناسب تصوير الصراع من زاوية عقائدية تفرضها المحافظية الفارسية، وهل أن قاعدة الصدام الحضاري والتحريض على الغرب تؤدي الى نتائج، أم أنها تأخذ بدربها كل منجزات العصر والحقوق المدنية ومكتسبات التنوير والديموقراطية؟ وأين رأي الإصلاحيين في إيران، الذين فقدوا منطقهم في حمأة العصبية الدائرة رحاها، وهم يشككون في مدى تجاوب العامة الإيرانيين مع سياسات أحمدي نجاد إلى ما لا نهاية، هذه السياسات التي أدت إلى توحد العالم في مواجهة ايران.

منظومة الامتدادات

فتح العراق الضعيف الباب أمام إيران لتصبح دولة شريكة في صوغ الحلول فيه، لكنها أيضاً اصبحت عاملاًً في بناء الفوضى. فتحت عنوان التفاعل مع قضايا المنطقة والتعامل مع قوى الرفض لم تقم إيران أي اعتبار لما يسمى بمبدأ السيادة الوطنية للدول التي لها فيها امتدادات خاصة في لبنان والعراق، إذ لم تُظهر السياسة الإيرانية عن عقلانية مفترضة، كانت كفيلة، إذا ما مورست، بتبديد المخاوف وبتحاشي استثارة الحالة المذهبية القائمة، والتي، وإن كانت ضرورة المجاملات والقفز من فوق المجاهرة بالحقائق تخبئ الكثير من مظاهرها، إلا أن حلقة الضعف الأساسية، إضافة إلى وجود الكيان الصهيوني، هي الحالة المذهبية القائمة والتي تفضي إلى التجزئة أو الفيديرالية أو غير ذلك من المشاريع، وأي جهد يؤجج هذه الحالة يأتي من ضمن ما يؤخذ على الأميركيين فعله، فهل السياسة الإيرانية في العراق، مع منظومة امتداداتها في المنطقة، لا تقدم إلى هذا؟

في جميع الأحوال لكلٍ في هذا الشرق معركته وأولوياته وهناك قناعة لا يجوز القفز عنها وهي أن ايران ليست هي التي ستعيد الى العراق وحدته، إنما العراقيون أنفسهم. وليست هي التي ستعيد للفلسطينيين أرضهم إنما الفلسطينيون أنفسهم. فالذي يندرج في سلم الأولويات الإيرانية اليوم هو خلاصها بسلامة من أي مواجهة قد تحصل، بعدما دخل ملفها إلى الواجهة، فعلى أي مساحة ستكون المبارزات وأين تقف منظومة الامتدادات من كل ذلك؟ أليس في مقدور إيران الرد بالفوضى؟ ألم تصبح جاهزة لذلك، وهل هذه الفوضى الإيرانية في المنطقة بناءة؟