نصر شمالي

من أجل فرض نفوذها وإحكام سيطرتها على العالم أجمع، تعتمد الإدارة الأميركية على قوتها العسكرية الجبارة التي لا تضاهى من حيث عدتها وعتادها وحجمها وسعة انتشارها، وأيضاً تعتمد على كتلتها الاقتصادية العملاقة التي تبدو قادرة على ابتلاع أية كتلة اقتصادية أخرى وهضمها وتمثّلها، حتى أنها تعتقد بقدرتها على احتواء النمو الاقتصادي الصيني العظيم، وضبطه في الحدود التي تتفق مع مصالحها، استناداً إلى قوتها العسكرية ونفوذها السياسي، وقد ترتب على ذلك أن كثيراً من الحكومات والأحزاب في العالم قد عدّلت برامجها بما لا يتناقض أو بما يتفق مع حقيقة الهيمنة الأميركية الصهيونية العالمية، غير القابلة للمانعة أو الاعتراض أو المواجهة!

غير أن التطورات النوعية المستجدة التي يشهدها العالم منذ الأمس القريب، خاصة بعد احتلال العراق، بدأت تتكشف عن معايير مختلفة للقوة والضعف لا علاقة لها بالحجم، سواء على الصعيد العسكري أم على الصعيد الاقتصادي، حيث ظاهرة التشكيلات الصغيرة العسكرية والاقتصادية، التشكيلات التي لا تعدّ ولا تحصى، برزت مؤخراً على الصعيدين، وفرضت وجودها وإرادتها في الساحة الدولية غير آبهة للقوة العسكرية الأميركية الجبارة ولا للكتلة الاقتصادية الأميركية العملاقة، مثل أسراب النحل المنظمة النشيطة، المنتجة والمحاربة، التي لا يعيقها عملاق ينطح برأسه الغيوم، بل هي تستطيع تعطيل إرادته وتبديد فعاليته بجعلها عشوائية!

القطار يتعطل في بغداد!

لقد شهد العالم في عقد الثمانينات الماضي تلك الردّة الريغانية/ التاتشرية إلى الليبرالية البدائية المتوحشة التي تعتمد قانون الغاب وحق البقاء للأقوى، وفي ذلك العهد دشّن الأميركيون إستراتيجية حرب النجوم التي أنهكت الاتحاد السوفييتي، وساهمت في دفعه إلى الانهيار، فانتهت بذلك حقبة الثنائية القطبية، وتفرّدت الولايات المتحدة باحتلال المركز الدولي الأول، لتتحول إدارتها بسرعة إلى ديكتاتورية باغية تعتقد أن العالم أجمع سوف يبقى خاضعاً لها تماماً على مدى القرن الحادي والعشرين!

في عقد التسعينات انطلق خلفاء ريغان وتاتشر يضعون الخطط التي تقرر مصير الأمم جميعها بالصورة التي تتفق مع مصالحهم، وكانت بغداد المحطة الأولى التي سيتوقف فيها قطارهم الحربي لبعض الوقت، فيخضعها ثم ينطلق إلى غيرها من محطات تنتشر ما بين بحر قزوين والمحيط الأطلسي، غير أن القطار تعطل في المحطة الأولى العراقية (كما يقول الدكتور محمود جبريل) من دون أن يظهر ما يدلّ على أنه سوف يصبح قادراً على مواصلة رحلته في وقت قريب، فقد فوجئت القوة الأميركية الضخمة الجبارة بالمقاومة العراقية تملأ الميدان منذ أيام الاحتلال الأولى، وبأنها تتألف من مجموعات لا حصر لها ولا عدّ، كل واحدة منها تضم ما لا يزيد على خمسة أشخاص يصنعون عبواتهم الناسفة بأنفسهم، وينفّذون عملياتهم القتالية بأنفسهم، لتجد القوة الأميركية نفسها عاجزة عن الحسم أمام هذه المجموعات الصغيرة، المتصلة ببعضها والمنفصلة عن بعضها في آن، الشديدة الفعالية في الميدان، والتي لا ينفع معها إبادة أي عدد منها، فهي أكثر من أن يحاط بها وأن يقضى عليها، بل هي في تكاثر مستمر، بدليل أن الأميركيين رصدوا لقتالها 130 مليون دولار في العامين 2003 – 2004، أما اليوم فقد رصدوا لقتالها ثلاثة مليارات دولار، إضافة إلى استعانتهم بأخطر عصابات القتلة الأجانب والمحليين كي تشغلها عن مهاجمة جنودهم النظاميين الذين يتألف منهم جيشهم الحديث العملاق!

الظاهرة الحربية والظاهرة الاقتصادية!

إن المأزق الذي وقع فيه الأميركيون في العراق يشكل ظاهرة حربية تاريخية جديدة بكل معنى الكلمة، حيث القوات الأميركية النظامية، الضخمة، الثقيلة، المسلحة بأحدث وأعجب ما أنتجته مصانع الأسلحة حتى يومنا هذا، تقف عاجزة مذهولة أمام هجمات تلك المجموعات العراقية المقاتلة، التي لا تعدّ ولا تحصى باعتراف الأميركيين أنفسهم! وهكذا تكون الحياة قد وازنت قواها من جديد، ومكنت الضعيف مادياً من التقابل بنجاح مع القوي مادياً، فخيبّت بذلك أمل الأميركيين بالانفراد بحكم العالم، بل فتحت الباب على مصاريعه لاحتمالات ما كانت لتخطر قبل سنوات قليلة ببالهم وببال المستسلمين لهيمنتهم، وسرعان ما بدأت آثار المأزق الأميركي في العراق تظهر في الميدان الاقتصادي الدولي، ليس في تململ مجموعة دول آسيان وتمرّد مجموعة دول أميركا اللاتينية فحسب، بل في ظاهرة الورشات الإنتاجية الصغيرة التي بدورها لا تعدّ ولا تحصى، والتي اجتاحت العالم عموماً في السنوات القليلة الأخيرة، من أقصاه إلى أقصاه، متخطية الكتلة الاقتصادية الأميركية العملاقة، وسابقة إياها إلى الأسواق الدولية!

يقول الدكتور محمود جبريل أن كل واحدة من هذه الورشات الانتاجية تتألف من أشخاص لا يزيد عددهم على العشرين، وأنها أصبحت متفوقة في ميدان الصادرات على المؤسسات الضخمة التي تضم الآلاف وعشرات الآلاف، حيث 82% من صادرات الصين مثلاً تنهض على عاتق هذه الورشات الصغيرة التي لا تعدّ ولا تحصى، والتي يوجد مثلها الكثير في عدد كبير من دول العالم، حتى في الولايات المتحدة الأميركية، وإنها لظاهرة اقتصادية عالمية، تاريخية وجديدة بكل معنى الكلمة، تقف أمامها التروستات والكارتيلات الاحتكارية الهائلة حائرة مضطربة، مثلما تقف القوات العسكرية الأميركية أمام المجموعات العراقية الصغيرة المقاتلة، التي لا تعدّ ولا تحصى، حائرة مضطربة!

خلاصة القول هي أن العالم يجتاز حقاً المسافة القاحلة التي تفصل بين عصرين تاريخيين، بدليل ظاهرة المجموعات المقاتلة العراقية التي لا تعدّ ولا تحصى، التي أربكت وجمّدت أضخم وأعظم قوة عسكرية في التاريخ البشري، وبدليل ظاهرة المجموعات الإنتاجية التي لا تعدّ و لا تحصى بدورها، والتي سبقت الاحتكارات العملاقة إلى الأسواق وخلفتها وراءها حائرة مضطربة، أما عن الولايات المتحدة فإن البيريسترويكا الخاصة بها تبدو قادمة لا محالة!