عبد اللطيف مهنا

مشهدان لهما دلالاتهما، تلازماً فعكسا واقع حالٍ لخص ماآل إليه ما كان يعرف بالصراع العربي - الصهيوني، الذي ابتصر فاستبدل مع الأيام بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ليغدو لدى الكثيرين هذه الأيام بالنزاع الإسرائيلي – الفلسطيني! المشهدان نأت بينهما المسافات وإن ترابطا، الأول كان على حلبه ساحة من ساحات رام الله الفلسطينية المحتلة، والثاني كان في رحاب الكونغرس الأمريكي في واشنطن...

في الأول، تابع العالم من أقصاه إلى أدناه، في نقل حيٍ، عبر كل من همها الأمر من شاشات التلفزة الكونية، وبكل لغات الأرض، معركةً غير مسبوقة في ظل توازن قوة سوريالي بامتياز، لجهة انتفاء معقولية المقارنة بين طرفيها... كانت معركةً فلسطينية – إسرائيلية، من ذات المعارك المعتادة الدامية بالنسبة لمتفرجي العالم إياه... لم تكن إلا كما هي دائماً، أي على طريقة داوود وجوليات معكوسةً...
جوليات الإسرائيلي، كانت طلائعه ما تعرف بوحدة "اليمم" الخاصة، أي واحدة مما يطلق عليها مجموعات "المستعربين"، أو وحدات الكوماندوس الإسرائيلية، التي أول من شكلها وأطلقها الجنرال شارون، عندما كان قائداً لما يوصف بالمنطقة الجنوبية إبان الستينات، مستعيداً بذلك أسلوباً وتسميةً من الموروثات الاستعمارية للانتداب البريطاني على فلسطين الممهد لاغتصابها وإقامة إسرائيل... مستعربوا شارون الذين هم الآن في عهد خليفته أولمرت وعهدة رئيس الأركان الجنرال حالوتس، يتقنون، كما كان يفعل أسلافهم البريطانيون، العربية، ويتحدثونها باللهجات الفلسطينية المحلية في مختلف ساحات عملهم الموكلة إليهم. كما يتزيأون الزي الفلسطيني، الأمر الذي يسهّل لهم إمكانية التسلل إلى عمق التجمعات الفلسطينية لتنفيذ مهماتهم الدموية المنوطة بهم من اغتيالات أو اعتقالات... لكنهم لا يقدمون على تلك المجازفات المحسوبة جيداً، إلا وفق التقليد الإسرائيلي المعتاد في ساحات الوغى، أي، بالإضافة إلى مسح استخباراتي شامل وكامل، يكون التنفيذ تحت حماية مكثفة براً وجواً، واسناد دائم التحفز لنجدة المغيرين إذا ما حوصروا أو عسرت عليهم المهمة، أو أربكت لخلل ما فيها، والمسارعة لإنقاذهم إذا ما وقعوا في كمين أو اكتشف الفلسطينيون أمرهم...

وهذا ما كان في رام الله، اكتشف الفلسطينيون أمر المتسللين، فبدأت معركة من ذات المعارك إياها في ساحة المنارة في أحشاء رام الله... داوود الفلسطيني، استخدم حجارته، حتى بدون المقلاع الذي لم يتوفر له في هذا الزمن العربي الرديء والعالمي المتواطئ... وجوليات الإسرائيلي، استخدم في مثل هذه المعركة، المتواضعة تواضع إمكانيات خصمه، ما يلزم من كل ما يتوفر له من كل ما فتح ورزق الغرب من ترسانات تحبل بما يشتهي من اعتدة وأسلحة وتقانة ووسائل اتصال متطورة... هبت القوات الجولياتية الحامية والمساندة القابعة عن كثبٍ في مداخل المدينة المحتلة، فولجتها بآلياتها المدججة من كل حدب وصوب... لتبدأ مذبحة انقاذ المغيرين المدللين من المستعربين الأشاوس... إلى أن انكفأ المنقذون بهم من حيث أتوا سالمين من أذى حصار الحجارة الفلسطينية المرعب... تاركين ورائهم رام الله المخضبة بدمائها والمعفرة بدخان الحرائق تلملم جراحاتها... فقدت في سويعات خمسة أسرى وأربعة شهداء وسبعين جريحاً... وما يتبع في مثل هكذا حالات اعتادتها، أي من بيوت دُمّرت وسيارات احرقت وبنى تحتية تهتكت...

في المشهد الثاني، لعل العالم أجبر أو تابع مكرهاً فيلماً أمريكياً إسرائيلياً عجائبياً طويلاً... لعله لم يكن سوى المعتاد الذي يبدو أن لا نهاية له... العرض كان على خشبة الكونغرس... وقف جوليات الإسرائيلي الملوثة يده بالدماء الفلسطينية مبشراً بسلامه الخاص... الكونغرس الأمريكي بقضه وقضيضه ينهض أعضاؤة الممثلين لإعتى قوة على سطح الكرة الأرضية ثمانية عشر مرة مصفقين وقوفاً لضيفهم الإسرائيلي... عديد هذه الهيئة التشريعية لدى إمبراطورية الإمبراطوريات، في زمن التفرد بأحادية القطبية الكونية وإبان العهد الاستباقي للمحافظين الجدد والمسيحيين المتصهينين العتق، يتدافعون في تسابق انتخابي على الطريقة الأمريكية لمصافحة ايهود اولمرت أو شرف تحيته عن قرب... شادين على يد الضيف المرحب به، الذي لم يحمل لهم جديداً، حتى فيما يتعلق بخطته الانطوائية التي أخرجها من جعبته في البيت الأبيض ليفردها بين يدي رئيسهم جورج بوش الابن... كانت هي هي كما وصلتهم سابقاً عبر الرسل والمستشارين واللوبي اليهودي ووسائل الإعلام... أولمرت الخطيب المقاطع بالتصفيق وقوفاً ثمانية عشر مرة، تواضع فلم يبخل على المحتفين به فرد التحية وإن بتقتير اعتاده الأمريكيون من الإسرائليين، فرحب بدوره بحرصهم على القيام بواجباتهم... بتدابيرهم الأمريكية المتخذة في مجلس النواب، وقريباً في مجلس الشيوخ، لمحاصرة الفلسطينيين أملاً في تركيعهم وكسر إرادتهم، لا سيما من هذه التدابير مشروع القانون الذي جاء في سياق برنامج تجويع الفلسطينيين... البرنامج الغربي العام المعروف، الذي بدأ تنفيذه إثر انتخابات تشريعي سلطة الحكم الذاتي الإداري تحت الاحتلال، والذي أُقر قبل القدوم الأولمرتي الميمون إلى واشنطن بأيام قليلة... المشروع المستهدف منع أي مساعدة أمريكية مباشرة أو غير مباشرة للفلسطينيين... أولمرت ذكّر في خطابه المسرحي بامتياز المرحبين المصفقين وقوفاً بإصراره على خطته الانطوائية المجمع عليها إسرائيلياً، التي قال لهم عنها إنها "ستحل جزءاً كبيراً من الصراع" مع الفلسطينيين! والتي يقول عنها شريكه في الائتلاف الحاكم، زعيم حزب العمل ووزير الحرب الراهن عمير بيرتس، أنها "كانت جزءاً مركزياً من برنامج الحكومة، وهي تستهدف رسم الحدود الدائمة لإسرائيل وضمان مستقبلها كدولة يهودية وديموقراطية"... لكن بيرتس الحريص، ولضمان نجاحها المأمول، يأمل "أن تتجسد هذه الخطة بالاتفاق مع الجانب الفلسطيني وبموافقة دولية كاملة"!
وهنا تأتي أهمية تكامل الحصارات الأمنية والسياسية والتجويعية إسرائيلياً وإقليمياً ودولياً ضد الفلسطينيين لكسر إرادتهم لفرض الخطة... إسرائيلياً، عبر كل الوسائل القمعية المتبعة راهناً التي يكابدونها تحت الاحتلال، وإقليمياً عبر التمسك الرسمي العربي بالسلام خياراً استراتيجياً وحيداً، وامتناع البنوك العربية بإيعاز أو تحذير أمريكي عن إيصال متراكم ما يودع لديها من التبرعات والمساعدات لهم، ودولياً عبر نصائح "الرباعية" المسمومة لهم، المصحوبة بوعيدها، بالتوازي مع قطع المساعدات عنهم... وعليه ذكّر اولمرت الشيوخ الأمريكان بواجباتهم، عندما قال لهم:

إن "النجاح لن يكون ممكناً إلا في ظل مشاركةٍ فعالة لأمريكا، تقود إلى دعم أصدقائنا في أوروبا وعبر العالم"!!!
في المشهد الأول، قابلت حجارة الجوعى العزّل المشاكسٍين قوة جوليات المدججة الهائجة... تلك التي انقسم حيال فعائلها العالم ما بين مشارك موضوعياً فيها أو داعم أو مؤيد لها، أو متجاهل غاض الطرف، أو غير معترض أو ساكت، على تلك الفعائل... كان المشهد هذا، والمنقول إلى كل من يهمه الأمر مباشرة على شاشات كل من تهمها الإثارة من فضائيات التلفزة الكونية، أسطورياً ومأسوياً في آن... أما النظارة، أو الطرف المتفرج شاء أم أبى أو بمحض الصدفة، فهو أما أجنبي بعيد الصلة أو الاهتمام أو لا يعنيه كثيراً أمراً اعتاد مشاهدته... أو قريب من ذوي صلة الرحم، وأن اعتاد أو عوّد على مثل ما رأه، أشاح قليلاً بوجهه اتقاء ما قد يلحق بما تبقى من وجدانه المثلوم من إحساس ببعض مهانةٍ أو مذلةٍ أو ذنب، جراء قعود أراده أو عجز ألم به، أو حتى فرض عليه، عن نصرة أو إغاثة بعضه الذي ترك وحيداً يواجه مصيره وظهره للحائط... المشهد يكشف عن أي درك وصل إليه حال الأمة، أو أوصل هذا العجز العربي لدرجة التواطؤ إليه قضية قضاياها في فلسطين... تلك التي كانت يوماً توصف يالمركزية، والتي تحولت لاحقاً إلى مجرد نزاع يدور بين داوود الفلسطيني العنيد وجوليات الإسرائيلي الدموي... تماماً كما تصور بعض تفاصيله آخر مشاهد جولاته المستمرة، تلك التي تصادف أن وقوعها قد اختير مكانه مؤخراً في رام الله...

...في المشهد الثاني، ليس ثمة هناك ما يوحي بالصدفة... كل شيء على المسرح أعد سلفاً وبعناية تماماً وفقما جرت العادة في اتباعه... قبل رحلة أولمرت إلى بلاد العم سام سبقته رسله إليها، وأعد يهودها العدة لها... نقلت هآرتس، أن الرسل مهدوا للبحث في "محور الزمن" قبل اتخاذ "القرار البديل" الذي قد يمتد من شهور إلى عام كامل لإعلان التأييد الأمريكي التام "لخطة الانطواء"... تم تسريب ما يخفض التوقعات بقصد التعمية وتخفيف ردود الأفعال العربية المحتملة، إن وجدت، على ما سوف تسفر عنه الزيارة، فالأمريكان المتخبطون في الورطتين العراقية والأفغانية ليسوا لهذا هم الآن في وارد الموافقة العلنية المباشرة على خطة أولمرت الشارونية المنبت... فعن ماذا أسفرت الزيارة؟!
أولاً: تم رفع شعار "محاورة عباس بديلاً عن حماس"... وحول ماذا؟

حول "الأفكار الجريئة" التي يراها بوش في "خطة الانطواء" التهويدية، التي لا تعني عدم الانفلاش التراتسفيري مستقبلاً وابتلاع لاحقاً ما تم الإنكفاء عنه من فتات ما تبقى من فلسطين التاريخية، والتي هي عنده، كما قال، قد تكون "خطة مهمة نحو السلام"... وتعهد بمساعدة إسرائيل إن هي "تعرضت لهجوم إيراني"!!!
...واستطراداً، هناك مشهد ثانوي على مسرح موازٍ... وقف دان غيلمان، مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة، أمام مؤتمر لمنظمة "بناي برايت" اليهودية الأمريكية قائلاً:
إن هناك "خمسة ديبلوماسيين فقط يعملون في بعثة إسرائيل، لكن اليوم انكشف السر: إننا فعلاً لسنا خمسة ديبلوماسيين فقط، إننا ستة على الأقل بما في ذلك جون بولتون"!

غيلمان أخطأ في الحساب، أو تظاهر بالخطأ... ماذا لو ضم للستة هؤلاء أعضاء الكونغرس ومجلس النواب، ومعهم الضيف والمضيف وإدارته في البيت الأبيض؟!!

المشهدان، في رام الله وواشنطن مترابطان، ترابط العلاقة العضوية بين الثكنة الإسرائيلية المتقدمة في المنطقة والمركز الأمريكي البعيد القريب منها... وترابط العجز العربي موضوعياً مع استمرار تهويد فلسطين وتدفق شلال الدم الفلسطيني... ترابط الأخير بتراجع ما كان يعرف بالصراع العربي – الصهيوني إلى حيث حولوه إلى مجرد نزاع تدور تفاصيله بين عناد حجارة داوود الفلسطيني وترسانات جوليات الإسرائيلي – الأمريكي – الغربي... لكن، ومع ذلك، وما دام هناك عرب باقون من أمثال أولئك الذين ظهرت صورهم وهم يلاقون القذائف بالحجارة على شاشات التلفزة في ساحات رام الله الجريحة المقاومة، ترى أي قوة في هذه الأرض يمكنها أن تبتصر أو تنهي مثل هذا الصراع المفتوح؟!!