روبرت فيسك

يؤكد الكاتب والمراسل الصحافي المخضرم المتخصص في شؤون الشرق الأوسط روبرت فيسك في هذا الحوار، الذي أجرته معه صحيفة «كلارين» الأرجنتينية مؤخرا، أن قوات التحالف الدولي في العراق تجد نفسها في وضعية أقرب إلى الحصار. ويخلص إلى نتيجة مفادها أن العرب فقدوا الخوف من اللجوء إلى المقاومة وأن المشروع الأميركي في المنطقة يبدو مستنفدا ومنهكا. وفيما يلي نص الحوار:

* ما الذي سيحدث في العراق عندما تنسحب الولايات المتحدة؟ ما الذي سيحدث بالنسبة للسنة والشيعة والأكراد؟ هل تعتقد أن الشقاق سيسود في مرحلة ما بعد الحرب؟

ـ لماذا يلجأ الناس دائما إلى تقسيم العراقيين إلى سنة وشيعة وأكراد؟ مع أن المجتمع العراقي ليس مجتمعا طائفيا وإنما هو مجتمع عشائري. فهناك تزاوج بين مختلف المجموعات. ولقد ذهبت في سامراء إلى عيادة طبيب مسلم سني، لكن الرجل كان قد مات في ذلك اليوم خلال عملية جراحية وربما قتل على أيدي عسكريين شيعة. بعد الجنازة، تناولت الطعام، في بيت عائلة الطبيب، مع الآخرين وأنا أتجاذب أطراف الحديث مع الأخ وسألته:

* هل تعتقد بأنه ستكون هناك حرب أهلية؟

ـ « لماذا تريدون أنتم الغربيون حربا أهلية بيننا؟» وأضاف لاحقا: «أنا تزوجت من امرأة شيعية ولا أريد قتل زوجتي. ثمة من يريد حربا أهلية. لكني لا أعتقد أن السنة يقومون بإحراق مساجد الشيعة ولا اعتقد كذلك أن الشيعة يقومون بإحراق مساجد السنة». بيد أن الأميركيين يواصلون وضع تلك الخرائط: سنة وشيعة...

علما بأن ذلك لا يتم مع واشنطن، ولا بتقسيم العراق إلى منطقتين، منطقة بيضاء وأخرى سوداء. لكن في الشرق الأوسط يتم التركيز دائما على ما يقسم وليس على ما يوحد. ومن الواضح أن هناك من يشجع الأكراد على أن يكون لهم مشروع دولتهم الخاص.

* هل تلمح إلى أن ذلك أمر متعمد؟

ـ لا أعتقد أن جورج بوش يجلس مع ديك تشيني لمناقشة كيفية تقسيم هذا أو ذاك. ففي الواقع أن تقسيم العرب في الغرب عادة قائمة منذ زمن طويل، وأنا لدي خارطة سياحية من عام 1874باللغة الفرنسية حول الأرض المقدسة وتشمل سوريا ولبنان وفلسطين وكان واضحا فيها منذ ذلك التاريخ وجود سنة وشيعة ومسيحيين ويهود.

* هل هناك مصلحة للقوى الغربية بتحفيز ذلك التقسيم لتحديد كيف سيكون عليه الوضع في مرحلة ما بعد الحرب؟

ـ إذا قمت بتحفيز أن يكون للشيعة دولتهم أو أن يكون للسنة دولتهم، وكذلك الأكراد، فمن الواضح أنه سيكون أكثر سهولة التوصل إلى اتفاقات على النفط مع كل دولة من هذه الدول أو مجموعة من تلك المجموعات الصغيرة الحاكمة.

إن الأمر أسهل بكثير من عقد اتفاقية نفطية مع بلد كبير. ونحن نعرف أن الشركات النفطية الأوروبية بدأت بعقد اجتماعات مع الحركة المسلحة للاتفاق على عقود لفترة ما بعد خروج الأميركيين. إحدى تلك الشركات النفطية هي بالضبط التي قامت باتصالات مع قادة حقيقيين من المقاومة، واحد أولئك القادة كان الرجل الذي قاد عملية الدفاع عن الفلوجة في نوفمبر من العام الماضي وهو رجل رفيع المستوى وأحد المسؤولين الرئيسيين، والذي أعطاني رقم هاتف هذا القائد كان بالضبط مدير تنفيذي لإحدى الشركات النفطية.

* كيف سيكون في رأيك رحيل الولايات المتحدة وانجلترا، هل سيكون منظما أم أنه ستحدث عملية إجلاء متعجلة مثلما حصل في فيتنام؟

ـ سيموت الكثير من الجنود الأميركيين والبريطانيين قبل رحيل هذه القوات. فحركات المقاومة لديها حوالي 40 ألف رجل وفي حال انضم الشيعة للسنة فمن الممكن أن يرتفع هذا العدد إلى 200 ألف رجل، وهو ما يساوي تماما عدد قوات الاحتلال. المحتلون يتمركزون اليوم في حصون حقيقية من الفولاذ والاسمنت ويعيشون تحت الأرض. والبريطانيون في العمارة، مثلا، يستلمون الطعام بصورة متكررة عن طريق رميه من الطائرات التي تحلق على ارتفاعات شاهقة.

وإذا كان هذا هو ما يسمى احتلال العمارة، فإني أعتقد أن الاحتلال قد انتهى. هم يقولون إنهم يسيطرون على المدينة لأنهم عقدوا اتفاقا مع الجماعات المسلحة يسمح لهم بتسيير دورية بريطانية مرة واحدة يوميا وتحديدا عند المساء. ولذلك، فإنه من الصعب العثور على الأميركيين لأنهم جميعا مختبئون في حصونهم تحت الأرض.

زرت منذ بضع سنوات قلعة للصليبيين في لبنان وتوقفت لملاحظة كيف تم بناؤها، وتبين لي أن الطريقة الوحيدة لرؤية المدينة هي عن طريق فجوة في السور، الذي كان يستخدم الرماة لإطلاق السهام. وإذا ما ذهبتم اليوم إلى المنطقة الخضراء في بغداد ونظرتم باتجاه الفتحات التي تطل منها فوهات الرشاشات، فإن الشيء الوحيد الذي ستتمكن من تمييزه هو جزء صغير من تمويه الجندي.

* كيف تتصور طبيعة مرحلة ما بعد الحرب في العراق؟

ـ إن رؤية الأميركيين للشرق الأوسط تقوم على أن السنة يقاتلونهم في العراق لأنهم يريدون إخراجهم منه. هذا واضح، لكن السنة لا يقفون عند هذا الحد وهم يراهنون على أنهم إذا تمكنوا من طرد الأميركيين من العراق، فإنهم سيتمكنون من تأكيد أنهم قادة البلاد.

وهم لا يناضلون ضد الأميركيين فحسب، وإنما من أجل الحصول على رصيد باعتبارهم الجهة التي طردت الأميركيين. وعندما يخرج الأميركيون، فإن السنة سيبقون. لذلك فإن السنة لا يفكرون في الصفحة المقبلة فقط، بل أيضا في الصفحتين أو الثلاث صفحات التالية. عندما كانت جبهة التحرير الوطني الجزائري تناضل ضد الفرنسيين في الجزائر، كانت تناضل أيضا للوصول إلى السلطة بعد رحيل الفرنسيين. وهم ما يزالون بالسلطة حتى يومنا هذا. وفي المقابل، فإن جل ما تريده قوات الاحتلال هو الخروج من هناك بأسرع وقت ممكن.

* ما الذي غير وجه العالم بعد هجمات 11 سبتمبر؟ غزو العراق أم غزو أفغانستان؟

ـ العراقيون قالوا لي في بغداد:» سيد فيسك، لماذا يذهب العسكريون الأميركيون إلى كازاخستان وأوزباكستان وأفغانستان وتركيا والأردن ومصر والجزائر وبلدان عربية أخرى يصل تعدادها إلى 13 بلدا؟» ولقد توصلوا بالتحليل إلى استنتاج مفاده أن هذا الوجود العسكري يمثل» ستارة من السلاح تبدأ من تركيا حتى حدود الصومال. كما تصل إلى باكستان.

وإذا سلطت الضوء على ستارة السلاح تلك، فستلاحظ أنها تلف كذلك كلا من غرينلاند وبريطانيا العظمى وألمانيا ويوغوسلافيا والبوسنة واليونان وتنغلق مجددا في تركيا. وهذا يبدأ من القطب الشمالي وصولا إلى افريقيا الوسطى. وفي واقع الأمر، فإن المسألة تتعلق بستارة من الأسلحة كان قد اقترحها ونستون تشرشل لمراقبة السوفييت. والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو ما الذي يحصل على الطرف الآخر من هذه الستارة أي في الصين وروسيا والهند. ذلك هو ما تغير.

* هل تملك الولايات المتحدة قوة كافية لمهاجمة إيران؟

ـ لا عبر الأرض، لا. يمكنهم إلقاء قنابل من الطائرات، لكن ليست لديهم القدرة على تحمل غزو على الأرض. وذلك بسبب العراق. وأنا تحدثت على انفراد إلى ضابط سوري له تأثير كبير في دمشق وقال لي: «سنحارب أي غزو، كما أننا ضد غزو العراق. لكننا نجونا بفضل التحرك المسلح في العراق. عندما احتل الأميركيون بغداد لم نعرف ما إذا كانت الدبابات ستتغير وجهتها إلى اليمين أو على اليسار»، ذلك الضابط يدرك الآن أنهم لن يذهبوا إلى أي مكان آخر، فالمشروع الأميركي قد نفد في العراق.

* ما هي أبرز التغييرات التي لاحظتها في الشرق الأوسط منذ أن بدأت بتغطية أخبار المنطقة منذ 30 عاما خلت؟

ـ التغيير الأكبر هو أن العرب لم يعد لديهم المزيد من الخوف. من كان يعتقد أن المقاومة ستولد في العراق؟ ومن كان يظن أن ذلك الشعب نفسه الذي بقي تحت نير صدام حسين كان سيحارب القوة العظمى ؟ لم يعد لدى القادة والشعب مزيد من الخوف وهم ليسوا قلقين حيال ما إذا كانوا سيعذبونهم أم يقتلونهم. وهذا ليس بالضرورة أمرا حسنا، لكنهم سيناضلون، وهذا ما كان يحصل سابقا.