عند الحديث عن "العزلة" نستطيع إحصاء كم من التحليلات الشفهية في ما يحدث اليوم لسورية، فسواء كانت "العزلة" التي يتحدثون عنها "افتراضية" او حقيقية، لكنها في النهاية "ظاهرة" داخل كل التحاليل السياسية التي لا تسطع أن ترى سورية إلا من واقع دولي، وهذه هي أزمة "العزلة" أو حتى أزمة "رؤية" سورية على مقاس العقود السابقة حيث كانت الصورة الدولية والدور الإقليمي هو التعبير الأمثل عن واقعنا .. فهل تبدلت الظروف؟! أم ان مسألة "العزلة" موازية لتناقض الأطراف داخليا وخارجيا ما بين "معارضة" و "سلطة" و "ديمقراطية" و "ديكتاتورية" وأخير محور الشر و "مساحة" الخير؟!

وربما تتجاوز "العزلة" مفهومها عند إسقاطها على الواقع السوري، فالمقصود عند الحديث عنها لا يقتصر على تعثر العلاقات الدولية فقط بل أيضا فشل السياسة الخارجية في البقاء ضمن موقع متقدم على سياق المراحل السابقة، ومن جهة أخرى إعادة رسم خارطة "النظام السياسي" بعد تجريده من مزاياه السابقة، وأخيرا تذكير المجتمع ان العزلة مقدمة لسيناريو مشابه شهدته المنطقة سواء في العراق أو ليبيا .. وأيا كانت حقيقة تلك الوقائع فإنها تخرج عن إطار الموضوع في النظر إلى سورية في المرحلة الراهنة بعد انتهاء الصيغ الدولية القديمة.

داخل "العزلة" نوع من حبس تفكيرنا الجديد في إطار من "التنظيرات" القديمة، لأنه بعد انتهاء الحرب الباردة فإن ما نراه في سورية هو أيضا شأن جديد، وحتى موضوع "الدور" الإقليمي فإنه يجب ان يختلف عما سبق، والأزمة ليست في إلقاء التبعة على جهة دون أخرى لأننا بحاجة إلى نظر من زاوية جديدة لواقعنا لأن ما حصل سابقا لن يتكرر بنفس الشكل او الآلية، وهو أيضا لن يمتلك نفس الأغراض الداخلية أو الخارجية، فما هو ضروري اليوم هو التحرر من مسألة "العوامل" التقليدية التي مازالت تحكمنا رغم انتهاء صلاحيتها ... والعزلة "أزمة" سياسية بلا شك لكنها في المقابل ليس صورة نمطية لواقع سياسي ظهر في الحرب الباردة ومازال مستمرا حتى اليوم.

وفي الصورة الجديدة ربما نحتاج إلى قراءة سورية بصورتها المتحولة كي نستطيع رسم القادم، والصور المتحولة ليست بالضرورة تبدلات إيديولوجية أو ارتكاس عن المواقف بل هي بالدرجة الأولى انتهاء العناصر القديمة التي كنا نتعامل معها .. فنحن اليوم أمام كتلة سكانية لم تكن عندما رسمت سورية دورها الإقليمي، ووسط اهتمامات اجتماعية تحولت في آلياتها نتيجة التغير الديموغرافي على سبيل المثال لا الحصر ... بينما لم تعد الاستراتيجيات الدولية كما كانت سابقا، وما بين كل هذه العناصر كيف نستطيع رؤية العزلة على سياق الثمانينات، او كحالة نقيم فيها أداء السياسة السورية؟! المسألة تبدو أعقد من استخدام "العزلة" كعنوان معارض أو دعائي، أو توظيفه في تقييم دور إقليمي أو دولي لأن سورية في النهاية في رؤيتها لنفسها ... وفي التعامل من زاوية جديدة مع المعطيات التي اتخذت في مرحلة سابقة شكلا ثابتا، في وقت تغيرت فيه ممكناتنا وانتقلنا "فيزيائيا" على الأقل نحو استحقاقات جديدة.

سورية بعشرين مليون مواطن ستختلف عن كل تجاربها عندما كان تعداد سكانها خمسة ملايين، بينما بقيت الرؤية السياسية أسيرة ومضة ضوء عاشتها بعد الاستقلال وماتزال تحلم بها حتى اليوم.